أن تترنح روحك وتشعر أن الأرض لا تحملك.. أن يتخبطك الحزن ويرتج في دواخلك.. أن تمشي بلا اتزان.. أن تفقد بوصلتك في الحياة.. أن تتوه في دروب كنت تعرفها عن ظهر قلب.. أن تشعر بأنك لا تعي ما حولك.. أن يجرفك الحنين جرفًا فتبكي بكاءً حارًا ولو لم تكن تبكي.. كل هذا يعني فقد الأم..
فقد الإحساس بالأمان بالطمأنينة بالهناء.. فقد طاقة الدعاء.. فقد شعاع النور الذي يتابعك؛ سواء كنت قريبًا أم بعيدًا.. فقد مظلة الخير التي تظلل خطواتك في دروب المشقة فتدفعك إلى الطريق، في وجود أمي كنت أردد دائما أنه لا ينقصني في هذه الحياة أي شيء، وبعد أن غادرتنا إلى أفق أرحب وعالمٍ أكثر اطمئنانًا ورحمة، فبغيابها صرتُ ينقصني كل شيء، فرحيل أمي يعني رحيل كل شيء جميل، كل شيء حبيب، كل شيء مُطمئن، أقول هذا وأكثر وكلي إيمانٌ ويقين بالله العلي الكبير، وإيمانٌ مطلق بقضائه وقدره، وأعلم أننا جميعا لابد راجعون إلى الله، وأن الآخرة هي دار المستقر، غير أن الحب الذي علمته لي أمي منذ طفولتي وصباي وفي جميع سنوات عمري وقلبها الكبير الذي لم ينفد عطاؤه حتى وهي في فراش المرض، وخوفها وإشفاقها علينا، ومحبتها للخير والناس وروحها المليئة بالرحمة ووجهها الملائكي البشوش المطمئن، ويداها الحانيتان، كل هذه الأسباب وغيرها تجعل الشوق إلى أمي لا حدود له وحنيني إليها جارفًا، وصوتَها في وجداني وملامحها تسكن الطرقات، وأنفاسها في زفراتي.
فلقد كانت متسامحة جدًا، وكانت حقًا رمزًا للطيبة والوئام، تملأ البيت بالألفة، وحريصة دائما على نجاحنا في الحياة ووقوفنا على أرجلنا ومواجهة الصعاب مهما كانت، ولا أنسى ما حييت جملتها الآسرة لي والتي كانت وقود حياتي الممتد معي في جميع المواقف والتجارب التي خضتها (ستكون يومًا ما تريد)، إنها أمي مدرسة الحب والوعي ومرفأ الأمان، أول من علمنا سياسة الحياة والتعامل اللائق مع الجميع أبناء وآباء وإخوة وأقارب وأصدقاء وجيران وأحبة، وحتى من نختلف معهم، وكانت تحثنا دائمًا على الجد والاجتهاد والاستذكار فعرفنا قيمة الجد والتعب الذي يبني الإنسان، ورغم تشجيعها لنا ووقوفها كحارس أمين لتطمئن إلى أننا نستذكر دروسنا ونركز، فإنها لم تجبرنا مرة على اختيار أو الالتحاق بدراسةٍ معينة كما هو شائع في المجتمع، فعشنا في وجود أمي الحبيبة في بيت تملأه الألفة والتعلم الدائم والحكمة، وكنت أحب أن أرى معاملتها الطيبة لزوجتي كأنها أم لها وأكثر، وحبها لأبنائي الذين يفتقدونها الآن.
أقول لو أن الأمهات يصغرن كل عامٍ، وألا يشبن أبدًا، وأن يبقين طويلًا جدًا إلى أن يولدن من جديد، فالحياة ليست دونهن حياة، وكانت أمي قد وعدتني (بطبق مسقعة) ما زلت أنتظره، وأنتظر حلاوة طهوك الذي لم يزل طعمه في فمي، لم أستطع الذهاب إلى البيت يا أمي، فلمن أذهب ولستِ فيه، اشتقت أن أقبل يديكِ لسؤالك عني وعن أحوالي، اشتقت أن تقولي لي لماذا تأخرت، فأنا دائمًا أنتظرك يا أمي، يا هوائي الذي كنت أتنفسه، وأناديكِ بروحٍ موجوعة يسيطر عليها الفقد، أهفو إلى لقائك بإحساس يبحث عنك في الدروب والطرقات، بأحلام لا تتخيّل سوى صورتك، فقد كنتِ معنى الحياة، والنور الذي يبدد ظلمة الطريق، والجدار الحائل من أي رياح، وصرت بفراقك كالغريق في محيطٍ من الأهوال تملأ النفس حسرة والقلب لوعة، فاللهم إنك أنت السلام، فبلغ اللهم أمي مني السلام.