في سرد مصحوب بالشجن يروي لي أستاذ العمارة المصري الدكتور عادل فهمي قصته مع بيت العذيبات بالدرعية على أطراف الرياض، والذي قرر الأمير سلطان بن سلمان إعادة إحيائه على تقاليد التراث العمراني العربي في السعودية، وأن يعيش فيه بديلا عن بيوت الأسمنت والحديد. قال لي إنه أجمل مكان عشقه، وله فيه ذكريات مع سمو الأمير، الذي أضفى على العاملين معه من خبراء وشيوخ وأناس عاديين روح الجدية والطموح والبساطة المدهشة؛ ليصنع بذلك حالة من الولع المشترك بإحياء ثقافة الطين وأساليب إدماجها في الحداثة بصدق ووضوح.
كان الدكتور عادل فهمي أخيرًا في مكتبة الإسكندرية متحدثًا أمام منتدى إفريقي، حينما سألوه عن رحلته مع الطين وفي أي مكان قوبل بحفاوة، فأجاب في السعودية، شارحًا قناعات سمو الأمير سلطان التي شكلتها السنين والخبرات بجدارة البناء بالطين..
زرت العذيبات ليلاً مسحورًا بتوزيع الإضاءة بين ممرات النخيل والبحيرات الصغيرة وباحة البيت التي تمنح هدوء البادية.. أما نهارًا فقد شرح لي الدكتور عادل فهمي أنها مترعة بالتفاصيل.. البئر التي تُستخرج منها المياه للشرب وللزراعة، والتي تحولت إلى قطعة معمارية تُحفظ للتاريخ، الدائرة الخشبية حول البئر، والحبال التي تشد بها الدلاء.. كل ذلك كان مهجورًا، وكل ذلك له مستندات عمل ووثائق ورسومات وصور للقديم والجديد تستحق القراءة والتعلم..
إحساسي أن الطين يقاوم الآن كما حاول المقاومة قديمًا، وأنه بحاجة إلى منهج علمي، تتيحه مدارس ومعاهد عليا، هذه المعاهد موجودة في دول أوروبية، أما في مصر والسعودية فهي محدودة، والدكتور عادل فهمي لديه ورشة في الفيوم، يأتي إليها طلبة من ألمانيا لتعلم الطين وتطويره وطرق البناء به.. ويذكر أن سمو الأمير قبل أن يغادر الرياض طلب تأسيس "معهد" طين، ويحكي أنه أسس "ورشة" طين بعد وصوله إلى العذيبات، وأنه أجرى أبحاثًا على نوع التربة في المملكة، وترك مكتبة كاملة من العينات، حيث تُسجل كلُ عينة طين ومصدرها واستخداماتها..
يلخص الدكتور عادل فهمي مساهمته في بيت العذيبات بورشة صناعة الطوب التي خرج منها بـ"طوبة" أعادت ثقة الناس في الطين، وورشة العروق كما عُرفت في منطقة نجران. (العرق باللهجة المحلية هو صندوق خشب طويل يوضع فيه الطوب ويستخدم في إقامة حائط الطوب في عملية واحدة).. وينتقل بطلب من الأمير لمساعدة فريق عمل يقوم بتجديد القصور المبنية بالطين في شمال المملكة وغربها، وهي مجموعة قصور بديعة.. وكان يقوم بتصوير القصر قبل التجديد وبعده ويطلع الأمير سلطان على الصور، الذي كان يتحرق شوقا لإطلاع الأجيال الجديدة على روعة إنجاز الأجداد..
ويرى الدكتور عادل فهمي أن الوعي بالتراث في المملكة ازداد وارتقى بفضل الأمير سلطان، الذي أطلق صيحة: "اعرفوا.. اعلموا تراثكم".. يتذكر أيامًا في الصومال؛ حيث بنى البيوت للفقراء، وفي أحد الصباحات جاءت سيدة ومعها كيس به بيضتان، لترد الجميل و"لأنك بنيت لي هذا البيت الحلو"، يقول: أخدت البيضتين وعلقتهم على الباب وكتبت تحتهم: "هذه هي جائزة نوبل للسلام التي حصل عليها عادل فهمي".. كما يتذكر الفنانة السويسرية إيفلين بوريه، وهما من أوائل من سافروا إلى قرية تونس على بحيرة قارون بالفيوم قبل ثلاثين عاما.
وكتبت مجلة "آخر ساعة" عن الرجل الذي عاش 30 سنة في ألمانيا وذهب إلى الصحراء.. ارتدت إيفيلين زي الفلاحات واتفقا على خدمة المكان، قالت أترك لي البنات وأنا أعلمهن الفخار، وقلت لها أتركي لي الأولاد وأنا أعلمهم البناء، ولم تعد هناك بطالة في القرية..
والآن فإن مثقفين كثر يتصلون به ليبني لهم بيتا من الطين، بينما هو يود البناء للفقراء. ما حاجتي للمال الآن، العائد الأكبر هو عندما أمر في قرية شيدت فيها بيوتا، أن أسمع من يناديني: "تعالى أشرب شاي" و"تعالى أقعد معانا"... زمان كانت السيدات المنقبات والمحجبات في قرى الفيوم لا يسلمن عليَّ باليد.. أحترم هذا.. الآن تسلم عليَّ، وتقول لي: "أنا عرفتك يا مقدس.. تعالى يا مقدس اشرب كباية شاي".. ولقد عرفن أنني أحب السمك، فيجهزون لي السمك..
تصلني طلبات من جامعات الفيوم وطنطا والمنصورة وبني سويف والمنيا، لأعطيهم محاضرات في البناء بالطين.. هذا يسر قلبي.. لكن أنا وحدي لا أقدر.. أريد مساعدين، وطلابًا.. لم أعد أقدر على القراءة ولا الكتابة كالزمن القديم.. أريد من يكتب ورائي لكي يتحول هذا إلى مستندات.. لدي مراجع جمعتها من أكثر من 30 سنة من الشغل في الطين، وكل شغل عملت له وثائقه ورسوماته.. أنا أحتاج إلى قسم في كلية الهندسة، وكل أشيائي سوف أتبرع بها، ولدي كنوز من الكتب والمراجع وآلات القياس.
وأرى مكانها في أي كلية بعيدًا عن القاهرة، الحمد لله أنا مبسوط وأفتكر البيضتين اللتين أخذتهما من الصومال..
خبرة الدكتور عادل فهمي عميقة وملهمة وأتمنى أن تدعوه قمة المناخ COP 27 في شرم الشيخ في نوفمبر المقبل ليقول كلمته ويمشي..