في مثل هذه الأيام قبل حوالي 110 سنوات، وفي حجرة داخل قصر "رأس التين"، كانت إحدى اللاجئات قد عضت وسادتها من فرط آلام المخاض! لم تتوقع الأم أن تلد ابنتها في الإسكندرية، لكنه صيف عام 1913 الساخن والذي شهد خواتيم حرب البلقان الأولى وبدء الثانية وتشرد البشر. كان أوان تحرر بعض أوروبا من الاحتلال العثماني قد آن، سيَّما عقب تمكن أمراض الشيخوخة من جسد استانبول. الخديو "عباس حلمي الثاني" كان قد أمر يخت "المحروسة" بالإبحار إلى مرفأ "قولة"، مسقط رأس جده الأكبر "محمد علي"، لإجلاء كل مَن أراد الهروب من الموت في البلقان إلى الأمان في بر مصر.
شدد الخديو على ربان اليخت، أن ينقذ كل مَن يستطيع دون تمييز عرقي أو ديني. وعقب الإقلاع نحو بحر إيجة بالشمال، انبرى عباس حلمي بساعديه، كذلك زوجته الأميرة جويدان، في تهيئة جنبات رأس التين للنازحين. نُصبت مئات الأسرة والمراتب، وتدفقتْ من تجار القاهرة والإسكندرية شتى صناديق صنوف المأكل والمشرب والملبس والدخان، وفي أوقات الراحة، كان الخديو يتسلى مع جويدان "كما وصفت في مذكراتها" بارتشاف القهوة بصوت مرتفع مثل العوام، فضلًا عن تسابق كل منهما في قذف نوى الكريز بالفم ليتساقط من الشرفة فوق الحراس المندهشين بالخارج. عقب هذه الأجواء المرحة، وردتْ برقية عاجلة تفيد بأن اليخت الآن في بحر العودة وعلى متنه ما يقرب من "ألفي لاجئ"! القارب الفاخر الذي صنعته شركة "سامودا" الإنكليزية عام 1865 بمدخنتين وثمانية مدافع وخمسة طوابق، وكان أول قطعة بحرية تعبر قناة السويس في الافتتاح التاريخي المهيب، صار مخزنًا عائمًا مكدسًا بلحم الناجين من جحيم البلقان. بتلك الساعات العصيبة فوق متن المحروسة، تُرى هل عزفت إحدى اللاجئات على البيانو الذي سبق وأن أهدته "أوجيني" إمبراطورة فرنسا للخديو إسماعيل، أم تحول إلى مجرد صندوق كبير نام البشر المنهكون من فوقه؟! لا أحد يعلم، لكن الفن في أحلك الظروف نجاة، ولنا في الموسيقى دومًا حياة.
في مستقر إقامتها الصيفية بقصرا لمنتزة، تجهمت قسمات جويدان لما علمت بأعداد القادمين، ولما أسدلتْ وصيفتها "هرملين" النَّامُوسية من فوق فراشها شعرت الأميرة بالخجل والذنب، كيف كانت تمرح بنوى الكريز، وغيرها من البشر الآن في البلقان وفوق يختها يعانون كل هذا البؤس! وحين أطلق يخت المحروسة بوقه إعلانًا بالوصول، كان القادمون لرأس التين أشباحًا بهيئة ذكور وإناث للإنس! روائحهم فائحة وملابسهم خرق بالية، أغلبهم كانوا مسلمين، مع وجود للمسيحيين واليهود، وقد عمل الخديو والأميرة على عدم التمييز بينهم حتى لا يظن أحد أنه أفضل من غيره. وعلى سبيل التشاطر الوجداني عمد عباس حلمي لرفقة الرجال منهم في حديقة القصر وتدخين السجائر معهم بلا تكلف. كمنت أزمة جويدان بكيفية تنظيم دخول كل هذا العدد من النسوة وأطفالهن للحمام! فعهدتْ بأمرهن إلى الخادمات البولونيات، فلما علمت اللاجئات أن الخادمات غير مسلمات، شعرن بالخطر الداهم وخشين منهن الشر! بدا أن الحرب التي جئن من نارها قد نزعت ثقتهن بكل شيء، وذلك حتى أتت الأميرة بنفسها موكدة لهن أن هؤلاء البولونيات يؤمن أيضًا بالله. بدا وكأن الترك بقرون الاحتلال قد زرعوا نفوس البلقان ببارود طائفي سيظل ولعقود طوال قادمة متأهبًا للانفجار!
ثم مرت أيام، وقد داهمت إحدى اللاجئات آلام المخاض، فلما ولدت طفلة جميلة، استأذن الأهل من القصر بتسميتها "جويدان" تيمنًا بالأميرة. ثم استحالت الأيام شهورًا وأعوامًا، غادر من هؤلاء مَن غادر، وظل في مصر مَن ظل، ومن غير المعروف، كيف سارت الحياة بالمولودة جويدان التي حُملت في يخت المحروسة كجنين، وخرجت برأسها إلى النور في رأس التين! هل بقيت هنا أم سافرت هناك؟ هل صارت مصرية، تركية، يونانية، بلغارية أو صربية؟ هل كبرت وتزوجت؟ هل طعنت في العمر وأصبحت جدة كبرى لرجال سكندريين، أم أن أحفادها ما زالوا في شبه جزيرة البلقان بعيدين؟
للتواصل مع الكاتب عبر تويتر: twitter.com/sheriefsaid