العالَم الافتراضي الإلكتروني الذي ربط أطراف الكون معًا ليبيت مبشرًا بمرحلة جديدة من الكوكبية والعولمة لم يعد عالمًا غضًا برئ الأغراض، بل يبدو أنه يسير بسرعة في الاتجاه نحو التحول إلى غابة ضخمة غامضة تتربص بين ظلالها قطعان من كيانات مجهولة الأهداف والنزعات.
باستطاعة القوى المسيطرة على الساحة التقنية العالمية أن تسحب بساط الحرية المزعومة الممتد إلى آخره، لكنها لن تفعل، فالحرية سلعتها الأولى والأهم لشراء معلومات وعملاء وولاءات عابرة للحدود، ثمة منظمات وائتلافات ومؤسسات تستغل الفضاء السيبراني الاستغلال الأسوأ من أجل مصالحها الاقتصادية أو السياسية أو المخابراتية دون أدنى اكتراث لأي اعتبارات قِيمية أو قانونية أو نظامية، والإنسان الفرد الذي يتطلع لنيل حريته الشخصية عبر الأثير السيبراني قد يكتشف أنه ضحية لحرية أكبر تتمتع بها كيانات مطلقة اليد تعبث بالعقول والثقافات.
هناك نوعان من الحرية يتصارعان في المعمعة السيبرانية، نوع فردي واهن ونوع جمعي مستأسد، وهناك طرف يمتلك هذه الحرية بكل مقوماتها بالفعل ويمنحها منحًا للطرف الآخر الذي يظن خاطئًا أنه حر، فتكون النتيجة أن الطرف الأقوى الممتلك لسائر خيوط اللعبة يظل الوحيد القادر على تحريك قطع الشطرنج كما يشاء كلاعب منفرد يلاعب ذاته، وهناك أطراف أخرى تدخل في اللعبة مع استمرارها العبثي بأهداف جديدة، حتى يتحول الفضاء السيبراني في أحد مراحله إلى فوضى كبرى لا قدرة لأحد على السيطرة عليها، ولا أن يعلم مدى الخروقات والاختراقات التي تتم هنا أو هناك!
عالم افتراضي يلتهم الواقع
تأتي الأبحاث والإحصائيات واستطلاعات الرأي لتشير إلى وهن البيئة الإليكترونية وهشاشتها، ولتثير علامات الاستفهام حول مغزى الحرية السيبرانية ومآلاتها، ولتدير صافرات النذير بأن الحرية لها ضريبة يدفعها الجميع ولو لم يشعروا.
هناك مثلًا.. حالات انتحار حدثت بين المستخدمين لتقنيات التواصل من فئات عمرية متباينة تنتمي في الأغلب الأعم لسنوات المراهقة المصحوبة بتغيرات نفسجسمية حادة، وهناك متاعب صحية شتى يصاب بها مدمنو الإنترنت تبدأ من العين وتمتد إلى الأطراف والظهر والكتف والرأس، والبعض يصل به الأمر إلى حالة من الأرق والتوتر أو الاكتئاب والصداع المزمنين! ويظل الإدمان التقني برغم الألم والشكوى مسيطرًا بجاذبيته وزخرفاته وسحره، ويظل الجميع في حالة إصرار على شراء أوهام المتعة التقنية بثمن باهظ كالصحة والوقت والمال.
ثَم هناك قلق وارتياب حول مآلات الحرية التي تمتعت بها وسائل التواصل الاجتماعي عبر شبكات الأثير الإليكتروني المحلية والعالمية، يبدو في التشريعات التي تُسن من أجل الحد من انتحار مراهقين بسبب لعبة أو نزوة أو رسالة تهديد غامضة.
لقد ظهرت أول شبكة اجتماعية إلكترونية عام 1995 وكانت تُدعَي "classmates.com" والهدف الأوحد منها ربط زملاء الدراسة في منتدى أثيري سريع التفاعل والأثر، هدف بريء وقيم.
لكن سرعان ما انطلقت أصناف شتى من مثل هذه الشبكات وعبرت الحدود الإقليمية بسرعة خرافية؛ بحيث تكدست فيها العقول والألسنة تكتب وتحبر وتلتهم محتويات معلوماتية وإخبارية يختلط فيها الغث بالثمين.. عشرات المواقع والشبكات مثل (فيسبوك وبلوجر ومكتوب وماي سبيس وسونيكو وعربيز وفلوكر ولينكدين ويوتيوب) وغيرها مما يضم ملايين بل مليارات المشاركين.
وفي دراسة ميدانية أجرتها إحدى الباحثات بجامعة الإسكندرية عن المشكلات التي صادفت طلاب الجامعة جراء استخدام الإنترنت وشبكات التواصل أكدت الدراسة تعرضهم لطائفة متباينة من المتاعب والمشكلات تنوعت بين مشكلات نفسية كالقلق والتوتر والأرق والخوف والإحباط وإدمان الإنترنت، ومشكلات ثقافية كالتغريب وانعدام الدقة والمصداقية والهشاشة المعلوماتية وتأثر الفصحى، ومشكلات اجتماعية كالعزلة عن الأسرة والأقارب والأصدقاء، رغم القرب المكاني وكالتعرض للقرصنة الإلكترونية والتطفل والسرقة، ومشكلة اقتصادية تتمثل في التكاليف التراكمية للاستخدام الإدماني للإنترنت، بالإضافة للمتاعب الصحية سالفة الذكر كآلام الرقبة واليد والظهر والمفاصل وإجهاد العين والإعياء والغثيان والأرق! فإذا كانت تلك متاعب فئة من الشباب يتسمون بالقوة وحب العلم والنباهة، فما بالنا بغيرهم ممن هم دونهم علمًا وثقافة وذكاء؟
[email protected]