على مدى عشرين عاما هي تاريخ عملى في بلاط صاحبة الجلالة لم أفكر أبدًا فى أن أجلس أمامه لأحاوره، فكيف أحاوره وقد كنت بمثابة ابنته المدللة التى تجلس فى معيته لتستمع إليه فى صمت عن حكاياته ومواقفه، وكلي عشق لنبرة صوته الذى كان يمتلئ بالوقار والحكمة من دون أن أقاطعه.
موضوعات مقترحة
فأنا مؤمنة بقضاء الله وقدره، لكني كنت أخاف من أن تأتي هذه اللحظة التي سأستخدم فيها أناملي لكتابة رثاء عن عمي وأبي الروحي ومثلي الأعلى في الحياة الكاتب الكبير صلاح منتصر الذي زرع داخلي عشق الكتابة وقيمة الكلمة، هو من علمني وعلم قراءه ومتابعيه أن الحياة عطاء، وأنك في أي مجال لن تؤثر فيمن حولك إلا بعد أن تتأثر.
عاش عمي حياته يملأ عقله بالثقافة والقراءة فقد بدأ حبه للكتابة من قراءته لقصاصة ورق جرائد ملقاة على الأرض، جلس على ركبتيه ليجد نفسه يقرأ القصة كاملة من أول كلمة حتى نهايتها وكانت قصة للكاتب إبراهيم الورداني الذي تابع عمي بعد ذلك كل كتاباته، وبعدما انتهى من القراءة قال: (الله الكتابة جميلة.. أنا عايز لما أكبر أكون كاتب).
هكذا بدأت حياة صلاح منتصر بحلم بدأ يكبر أمامه وينميه من خلال انغماسه في القراءة وبدأ ينفذ الحلم على أرض الواقع عندما أنشأ جريدة في المنزل تحكي كل يوم الأخبار وتحللها. مثل قدوم مولود جديد وأحداث أخرى يومية كان يوثقها، وكل هذا في المرحلة الثانوية
حتى التحق بكلية الحقوق، وبعدها بدأ الحظ يضرب ضربته عندما علم أن أحد زملائه يتدرب في (آخر ساعة) فطلب منه أن يذهب معه وألح عليه كثيرا إلى أن أخذه في يوم إصدار المجلة، ووقتها كان المكان خاليًا إلا من المكاتب، جلس عمي ينتظر زميله في صالة التحرير وسط أحلامه في أن يصبح في يوم من الأيام صحفيًّا ينضم إليهم، إلى أن تخلل حلمه صوت يسأله: لماذا تجلس هكذا؟ لم يرد عمي ولكنه نظر بتعجب وخوف ووجد شخصا يقول له: تأتي غدًا ومعك ثلاث أفكار، عرف بعدها أنه إسماعيل الحبروك رئيس التحرير، وهكذا بدأ الحلم يتحقق، انتظر عمي اللقاء ومعه سبع أفكار وليس ثلاث كما طُلب منه.
هكذا بدأ مسيرته في بلاط صاحبة الجلالة واستمر فترة حتى تقابل مع الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، وكانت هذه النقلة هي الأهم في حياته عندما انتقل معه إلى الأهرام التي أسس فيها قسم التحقيقات، فلم يكن هناك قسم مختص من قبل، كانت الأهرام تنشر أخبار السياسة والاقتصاد فقط، فكان عمي أول رئيس لقسم التحقيقات في الأهرام، بعدها تدرج ليصبح مديرا لتحريرها وهنا جاءته المفاجأة عندما أسندت إليه رئاسة تحرير مجلة أكتوبر بعد الكاتب الصحفي أنيس منصور.
وقد حكي لي عمي أنه لم يبك في حياته إلا مرتين، عندما توفيت زوجته الأولى، وفي أول يوم جلس على مكتب مجلة أكتوبر كان دائما يقول (رئاسة وزارة بالأهرام أحب عندي من أن أكون رئيس دولة لمكان آخر)، وفي لفتة لا بد من الإشارة إليها أنه على الرغم من اختلافه مع سياسة أنيس منصور في رئاسة تحرير المجلة، لكن الوفاء حتم عليه أن يكون أول غلاف يصدر بعد تولي صلاح منتصر هو صورة للكاتب أنيس منصور، وبداخل المجلة حوار مطول في تسع صفحات، يحكي فيه أنيس منصور عن كل ما مر في حياته من محطات.
عمي صلاح منتصر كان يرى أنه من الفشل أن يأتي رئيس تحرير لإصدار سواء مجلة أو جريدة يحاول طمس ملامح رئيس التحرير الذي يسبقه وتغيير شكل المجلة وإعادة هيكلتها من جديد لأنك بذلك ستفقد قراءها الذين حققتهم، وينبغي أن يشعر القارئ بالتغيير من خلال المضمون.
توليى صلاح منتصر رئاسة تحرير مجلة أكتوبر لمدة عشر سنوات لم يتوقف يومًا عن كتابة مقاله اليومي(مجرد رأي) في الصفحة الأخيرة الذي كان من وجهة نظر قراء كثيرين بمثابة نافذة على العالم.
كان دائما يقول لي إن الفرق بين الصحفى الناجح وغير الناجح يكمن في البحث والقراءة والاطلاع، فقد كانت كتابته لأي مقال تستغرق منه وقتا طويلا من الاطلاع والبحث والتدوين لمعلومات كثيرة من الممكن ألا يستعين بأي معلومة منها للمقال، ولكن يكفي أن يحيط بكل جوانب الموضوع الإيجابية والسلبية قبل الكتابة عنها.
الصحافة عنده هي مهنة البحث عن المتاعب، وأن الصحفي مثل الأسلاك التي تشتعل لتضئ المصباح، هكذا كان كلامه. عندما جئته بخطاب تدريب من كليتي لتدريبي في الأهرام قال لي: (انسي الموضوع يا أميرة لن تتمكني من تحمل هذه الصعاب، وأنا أخاف عليك)..
قال لي هذا الكلام وكان يراقبني ويراقب إصراري الذي كان كفيلا بأن يثنيه عن رأيه.
وأتذكر في أحد الأيام وفي اليوم الأسبوعي لتجمع العائلة وقد أعددت له نقدا للكتاب الذي استمتعت بقراءته (رسالة إلى كل شاب) الذي جمع فيه مقالاته بمجلة الشباب، وكان عبارة عن رسائل واختار شقيقى شريف ليوجه إليه هذه الرسائل التى بدأها بجملة (عزيزى شريف).
وقد جلست بجرأة أمامه وأمام العائلة أقرأ عليه النقد وهو مستمتع، وكنت وقتها في المرحلة الإعدادية ولن أنسى رده حتى الآن: «براڤو عليك يا أميرة واضح إن الجينات الصحفية اشتغلت».
هكذا ذكرته بهذه الجملة التي ساعدني عمي بعدها في التدريب في قسم التحقيقات مع الصحفى عبدالسلام عوض.
بعدها كانت الكاتبة الصحفية سناء البيسي التي أتاحت لي الفرصة فكانت البداية والانطلاقة، وقضيت عشرين عاما في بلاط صاحبة الجلالة، يساندني عمي بتشجيعه المستمر لي وثنائه على كل تحقيق أو حوار أجريه، فقد كان متابعا جيدا لموضوعاتي، وكانت فرحتي العارمة عندما كان يهاتفه أي من المصادر التي أحاورها يثني علي وعلى طريقتي في الكتابة وقدرتي على محاورة المصدر برقي، كما قال عني له السفير محمد بسيوني سفير مصر في إسرائيل، والكاتب الكبير مكرم محمد أحمد، والفنانة الراحلة مديحة يسري وآخرون.
كان عمي بمثابة الشعلة التي تضىء لي ولقرائه الطريق، ولم يكن رأيه بالنسبة لنا مجرد رأي بل كان هو الرأي الثائر الممتلئ بحنكة وخبرة وثقافة سنوات أفناها في الاطلاع والمعرفة.
كان يرى أنه سيبقى حتى مماته تلميذًا في مدرسة الحياة، وأن من يرى أنه يعرف فإنه ضل لأنه معرفته لا تمثل شيئا بالنسبة للعالم الكبير الذي يعيش فيه.
كنت أستشيره في كل أمور حياتي، في عملي، وفي تعاملي مع زوجي وأبنائي، فقد كان يقول لى دائما: إن البيئة التي سيتربى فيها الابن هي التي يمكن منها أن تحكم على مستقبل هذا الابن، مستشهدا بحياته التي بدأها منذ طفولته عند عمته في دمياط التي تربى مع أبنائها الخمسة، بعد أن توفيت والدته وهو في سن ثلاث سنوات أرسله والده للعيش معهم في دمياط، فجعله ارتباطه الشديد بأبناء عمته ينزل معهم إلى مصنع الحلويات الذي جعله يحلم بأن يكون صانع حلويات، ومرت السنوات على هذا الحلم الذي تبدد بمجرد انتقاله إلى العيش في بيت أخيه حسين منتصر، البيت الذي كان يمتلئ بالكتب والأسطوانات والجرائد التي تأتي يوميا من تحت الباب، هكذا تغيرت البيئة وتغير معها الحلم. فقد بدأ يقرأ ويحلم بأن يكون كاتب قصة…كانت نصيحته لي تحمل مزيجا من العقلانية الممزوجة بالعاطفة، فكانت الحصيلة رأيا صائبا.
ومن أهم النصائح التى كان يرددها:
1 - لن تستطيع ـ وفي أي مجال وليس الصحافة فقط ـ التأثير فيمن حولك إلا لو تأثرت بأشخاص لتؤثر يجب أن تتأثر.
2 - من السهل أن تهدم ولكن الأصعب أن تبني.
3 - الحياة مدرسة يجب أن تكونى تلميذة بها ولا تدعي المعرفة حتى لو عرفتِ لأن معرفتك صفر بحانب العالم الملىء بالمعرفة.
4 - سافرى واستمتعى لأن السفر والترحال والاطلاع على ثقافات العالم المختلفة أهم متع الحياة.
5 - العطاء متعة الحياة.