«إرادتنا نور حياتنا» ثلاث كلمات مضيئة من نور، اتخذها أعضاء جمعية (دنيتنا) شعارًا لهم، ففي شارع أحمد شوقي برشدي على ترام رمل الإسكندرية، تقع أول جمعية يرأس مجلس إدارتها ستة من مكفوفي البصر، من الحاصلين على درجتى الماجستير والدكتوراة فى الآداب والحقوق والشريعة والقانون، إضافة إلى حنان حشيش مؤسسة الجمعية ورئيس مجلس إدارتها، تلك السيدة الخمسينية التى شاءت إرادة الله أن تحرمها من نعمة الإنجاب لطفل أو طفلين فصارت بين يوم وليلة أما لأكثر من 200 كفيف وكفيفة، هم أعضاء جمعية دنيتنا للمكفوفين، من داخل مقر الجمعية كان لقاؤنا مع أعضائها للتعرف إلى أنشطتها، والخدمات التي تقدمها إلى مكفوفي وضعاف البصر بالإسكندرية.
موضوعات مقترحة
في لقائي مع حنان حشيش أو (ماما حنان) كما يناديها أعضاء الجمعية سألتها عن بداية عملها في مجال العمل التطوعي وتكوين الجمعية وأهم الأنشطة والخدمات التي تقدمها إلى المكفوفين فقالت: أنا قاهرية الأصل، انتقلت للعيش بالإسكندرية منذ أكثر من واحد وعشرين عامًا بحكم عمل زوجي المهندس علاء شيحة بها، تركت أهلي ووظيفتي بمجال التسويق بالقاهرة وعشت بالإسكندرية، شاءت إرادة الله ألا أرزق بالأولاد، شعرت بالملل والوحدة في ظل عمل زوجي المستمر، فقررت شغل وقت فراغي بعمل، يسعدني ولأنني أحب مساعدة الناس وتقديم العون لهم اتجهت إلى العمل بالجمعيات الخيرية، بدايتي في عام 2005 مع جمعية رسالة، عندما قُدمت لي استمارة الالتحاق بالمجال المفضل لدي وجدت نفسي من دون أن أشعر أختار المكفوفين، أحسست وقتها بأن تلك رسالة من الله لي لخدمة تلك الفئة، وبالفعل بدأت أقرأ وأدون المحاضرات لطلاب الجامعات وأصنع العرائس الكروشيه لأقدمها هدايا للكفيفات، وبدأت أُعلمهن الكروشيه في الصيف ووجدتهن بارعات فيه، ولاحظت أن الكفيف يعوضه الله عن البصر بحاسة اللمس وهى أقوى حاسة لديه.
ثم انتقلت إلى جمعية بنات النور بالسيوف للكفيفات، وصارت بيني وبين أعضائها من الكفيفات صداقة حقيقية أستمع إلى مشكلاتهن وأعمل على حلها، وبحثت عن أهم الحرف التي تبرع فيها الكفيف فوجدت أنها صناعة البامبو، لأنها تعتمد على اللمس وأصابع الكفيف عينه التى يرى بها، ويحدد من خلالها أبعاد وشكل الشيء الذى يصنعه، وبالفعل أحضرت إليهن مدربًا مبصرًا ليعلمهن كيفية صناعة البامبو بكل أشكاله من سلال وشنط وغيرها من الأشكال المتعددة من البامبو، وصارت بنات جمعية النور بارعات فى أعمال البامبو، بعد مرور ثماني سنوات بالجمعية فكرت فى تكوين جمعية يدير مجلس إدارتها المكفوفون أنفسهم، لأنهم من يستطيعون تحديد ما يلزمهم من احتياجات وأنشطة، وفى عام 2015 بدأت فى إجراءات إشهار الجمعية وواجهتني عدة صعوبات منها، اختيار مكان يكون على الترام مباشرًة لأنها وسيلة المواصلات الآمنة التى يستخدمها أغلب المكفوفين بالإسكندرية، بعد فترة من البحث عثرت على مقر بشارع أحمد شوقي برشدي على ترام الرمل، ثم واجهتني صعوبة في اختيار اسم للجمعية والذى يجب ألا يشبه أى اسم من أسماء الجمعيات الأخرى بالإسكندرية والتى كان عددها فى ذلك الوقت 3905 جمعيات منها سبع جمعيات للمكفوفين، وبعد بحث طويل اخترنا اسم (دنيتنا) للجمعية وبعد إتمام الإجراءات بدأت فى تكوين مجلس الإدارة، ووقع الاختيار على ست فتيات كفيفات من خريجي كليات الآداب والحقوق وأربع منهن حاصلات على درجتي الماجستير والدكتوراة إضافة إليَّ كرئيسة لمجلس الإدارة.
صناعة البامبو والكليم
عن أنشطة الجمعية أوضحت حشيش أن الجمعية بها العديد من الأنشطة ومنها ورش صناعة البامبو التى برع فيها العديد من الفتيات والشبان مكفوفى البصر فى وقت قصير حتى صاروا الآن مدربين للأعضاء الجدد، ويتم فى تلك الورش صناعة منتجات عالية الجودة من السلال والشنط والتربو متعدد الاستخدام وشنط البحر، ويتم تسويق تلك المنتجات عبر معرض الجمعية وعن طريق صفحة الجمعية على فيس بوك، كما نشترك فى العديد من المعارض لعرض تلك المنتجات ومنها معرض ديارنا، وحرصت أن تصنع الكفيفات منتجات البامبو أمام جمهور المعرض حتى يتأكدوا من أن جميع المنتجات تمت بأيدي المكفوفين أنفسهم.
ثاني الأنشطة هو صناعة الكليم والسجاد اليدوى والمكرميات التى ينسجها ضعاف البصر من الشباب والفتيات، لأن تلك الصناعة تعتمد على صبغة واختيار وتنسيق الألوان، تُباع تلك المنتجات عبر صفحة الجمعية وفى المعارض، ويحصل المتدرب على دخل يومى خمسين جنيهًا تحفيز له، إضافة إلى توفير أتوبيس ينقلهم من منازلهم إلى مقر الجمعية ويبلغ عدد العاملين بالورش 75عضوا وعضوة.
ويعد مركز الكمبيوتر للمكفوفين من أهم أنشطة الجمعية، لأنه من خلال البرامج الناطقة يؤهل خريجي الجامعات من المكفوفين لسوق العمل، وتوجد مطبعة بريل لطباعة الملازم لطلاب الجامعات والكتب الدراسية لطلاب المدارس بأسعار رمزية.
إضافة إلى فريق النور للكورال للموسيقى العربية، والذي يتكون من العديد من المطربين والمطربات فاقدي البصر، وقد استطاع هذا الفريق حصد جوائز المركز الأول لمدة ثلاث سنوات فى مسابقة المواهب الذهبية التى ينظمها صندوق التنمية الثقافية التابع لوزارة الثقافة، كما سافر الفريق إلى المغرب عام 2018 لمدينة تطوان وحصلوا على درع المهرجان الدولى للموسيقى العربية للمكفوفين، بجانب إحيائهم ليالى الطرب والموسيقى بمركز الإبداع ونادى سبورتنج ومكتبة الإسكندرية.
وتوضح رئيس مجلس الإدارة فى ختام استعراضها أنشطة الجمعية، أن أحدث الأنشطة التى أُضيفت إلى (دنيتنا) هو مركز رعاية الأطفال من مكفوفي البصر ومتعددي الإعاقة لتطوير مهارتهم منذ الصغر، وقبل التحاقهم بالمدرسة، ويتم التحاق الأطفال بذلك المركز من سن ثلاث سنوات، ويعمل به عدد من المتخصصين فى تنمية مهارات الطفل الكفيف، وأغلبهم من الحاصلين على درجة الدكتوراة فى مجال الأطفال متعددى الإعاقة.
الكمبيوتر والمحمول دليل مبصر للمكفوفين
ومن داخل معمل الكمبيوتر بجمعية دنيتنا حيث يتم عقد دورات لتأهيل خريجي الجامعات من المكفوفين لسوق العمل، يقول محمود محمد مدير المعمل الذى يتولى تدريب المكفوفين على استخدام البرامج التى تؤهلهم للالتحاق بسوق العمل: التحقت بالجمعية فور تخرجي في كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر عام 2018 وحصلت على العديد من دورات الكمبيوتر قبل كف بصري بصورة كاملة منذ عامين، فأنا أعاني من ضمور بالعصب البصري منذ مولدي، وقد عشقت برامج الكمبيوتر المتنوعة وتدربت عليها وحصلت على عدة شهادات لعدة دورات، ويضيف أن التكنولوجيا الحديثة سواء في التليفون المحمول أو الكمبيوتر تُساعد الكفيف فى إنجاز جميع أعماله اليومية، ومنها ركوب المواصلات واستدعاء تطبيقي كريم أو أوبر ودفع النقود، بل إن هناك بعض البرامج تُحمل على الموبايل لتُرشد الكفيف إلى قيمة العملة التى يدفعها وقيمة ما استرده منها، وهناك برامج أخرى تعد دليلًا للكفيف توضح له الطرق التي يسلكها من دون مساعدة أحد، فتوضح له متى يعبر الشارع ومتى يقف، كما تُرشده إلى أماكن الأرصفة والسلالم والحوائط كي لا يصطدم بها، كما يحصل الكفيف على العديد من دورات الكمبيوتر فى الويندوز من البداية حتى الاحتراف.
ويوضح أن عدد المتدربين بالمركز الذي يبدأ العمل به من الساعة العاشرة صباحًا وحتى الرابعة مساءً لا يزيد على عشرة متدربين يوميًا، لأن سعة المعمل عشرة أجهزة كمبيوتر، وبالنسبة لتأهيل الخريجين لسوق العمل يؤكد محمود خلال حديثة أن الجمعية وقعت بروتوكولا بينها وبين إحدى الشركات لتدريب المكفوفين من خريجى الجامعات على التعامل مع الكمبيوتر باحترافية.
وتتفق معه د. هبة خليف الحاصلة على الدكتوراة من جامعة دورهام بإنجلترا فى دمج ذوى الإعاقة فى التعليم والمشرفة على مركز دنيتنا للاطفال المكفوفين في أهمية التكنولوجيا الحديثة فى تطوير أداء المكفوفين وبخاصة الأطفال، وجعلهم مثل أقرانهم المبصرين، وتضيف أن الطفل يلتحق بمركز دنيتنا عندما يبلغ من العمر ثلاث سنوات، ونبدأ فى تعليمه كيفية أداء جميع المهام التى تحتاج إليها خلال اليوم مثل ارتداء ملابسة وترتيب ألعابه وعمل ساندويتش الإفطار، بتنمية تلك القدرات عن طريق التدريب المستمر وكذلك تنمية قدرات حاسة اللمس وبخاصة الأطفال متعددى الإعاقة بصنع أشكال ومجسمات الخضار والفاكهة ووسائل المواصلات للتعرف من خلالها إلى لونها وشكلها وكيفية استخدامها، كذلك يتم عمل جلسات تخاطب لمكفوفي البصر ولديهم إعاقة تأخر الكلام، وجلسات مهارات حركية للأطفال الذين لديهم إعاقة حركية، وتضيف أن العمل بالمركز يبدأ باستضافة الأطفال من التاسعة صباحًا وحتى الواحدة والنصف ظهرًا، ويتم خلال اليوم عمل خطة فردية لكل طفل حسب قدراته وما يعانيه من إعاقة وتؤكد خليف ضرورة ملاحظة الوالدين لأطفالهم منذ الولادة وتدخلهم السريع لتنمية مهاراتهم بالاستعانة بالمتخصصين حتى يلتحقوا بالمدرسة وهم مستعدون لمواجهة الحياة من دون مساعدة من أحد.
روائع البامبو والكليم بأيدى المكفوفين
داخل ورش الحرف يجتمع أكثر من خمسين كفيفا وكفيفة وضعاف البصر، كل منهم يشتغل بالحرفة التى يتقنها بمهارة تفوق مهارة المبصرين، وتُجمع تلك المنتجات فى نهاية الأسبوع وتُعرض بمعرض الجمعية وعلى صفحتها على فيس بوك التي وصل عدد متابعيها إلى 55 ألف متابع.
وتقول شاهندة سعد 28عامًا تخرجت في الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا وحصلت على درجة الماجستير فى إدارة الأعمال: على الرغم من ذلك لم أجد عملًا مناسبًا حتى الآن ففرص العمل المتاحة للمكفوفين نادرة للغاية، وجلست بالمنزل حتى أُصبت بالملل، هنا فكرت في الالتحاق بالجمعية لشغل وقت الفراغ، وكان ذلك منذ عام ونصف العام وبدأت أتدرب على شغل البامبو على أيدى متدربين متخصصين فى البامبو وخلال أربعة شهور استطعت عمل أول شنطة بمفردي، وبعدها صنعت العديد من السلال والأباجورات والاستاندات وبعتها جميعًا عبر صفحة الجمعية، وعن المدة التى يستغرقها عمل القطعة أوضحت شاهندة أن القطعة الصغيرة كالشنطة يستغرق عملها يومين أما القطع الكبيرة كباسكت الغسيل فيستغرق صنعها خمسة أيام.
ومن أمام النول وقف محمد جمال 35 عامًا من ضعاف البصر لينسج بأنامله قطعة من الكليم اليدوي زاهي الألوان، وقد أوضح أنه التحق بالجمعية منذ خمسة شهور وقابل ماما حنان التى أحاطته بالرعاية ووجهته إلى العمل على نول الكليم والمكرميات التى كان يتقنها قبل ضعف بصره، وأضاف أنه سعيد بالعمل فى الجمعية خصوصًا أنه أنتج العديد من قطع الكليم الصغيرة (مشاية) والتى لا يستغرق نسجها بين يديه سوى ثلاثة أيام وبدأ الطلب يزداد على إنتاجه من الكليم، بخاصة أن أسعار البيع لكل منتجات الجمعية فى متناول الجميع لأنها جهة غير هادفة للربح.
أما نسمة محمد فهى عاشقة للأعمال اليدوية والتى بدأت فى تعلمها منذ أن كانت فى المرحلة الإعدادية حتى حصولها على ليسانس الآداب شعبة التاريخ وتضيف: تعرفت إلى ماما حنان منذ أكثر من عشر سنوات خلال تطوعها فى جمعية النور للكفيفات وصارت بينى وبينها صداقة، وعندما أسست جمعية (دنيتنا) انتقلت معها إلى الجمعية، ودربت العديد من الفتيات على أعمال المكرمية والخرز وأشغال الكروشيه.