ظاهرة صحية أن يتحاور المجتمع، وأن تتقارع الأفكار وتتسابق الرؤى، وتتقاطع الآراء لتتلاقى عند الوطن.. نعم نختلف لكن دون خلاف على مصر ومستقبلها واستقرارها.. ولعل حالة الحراك السياسي التى تشهدها البلاد منذ أن دعا الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى الحوار الوطني قبل أسابيع تؤكد أن مصر قادرة على صنع المستقبل، ولديها الإرادة على مواجهة التحديات، وتمتلك العزيمة في التصدي لتداعيات العواصف العاتية التي تضرب العالم منذ تفشي وباء كورونا، ثم زلزال حرب روسيا وأوكرانيا..
تابعت على مدى الأيام الماضية فعاليات نقاش ما قبل الحوار الذي أراده صاحب الدعوة متسعًا للجميع، وحاضنًا لكل الفئات، وساحة لكل الآراء، وملتقى لجميع الأفكار والمقترحات.. لكن إذا ببعض المتناقشين يريدونه حكرًا على المعارضة في مواجهة السلطة الحاكمة؛ أي بين أقلية بلا ظهير شعبي، ونظام حاكم أعلن أنه يريد حوارًا حول المستقبل وبناء الجمهورية الجديدة، وللأسف وجدت في أفكار وأطروحات هذه الأقلية المعارضة جنوحًا عن مصالح الأغلبية من الشعب، وشططًا في الطموحات يدغدغ مشاعر المواطنين البسطاء أكثر ما يقدم لهم حلولًا واقعية..
وجدت أيضًا في هذه الأفكار نوازع أيديولوجية تبددت، ونظريات سياسية تبدلت، ودوافع حزبية ضيقة.. ربما يرى البعض أن هذا من قبيل حرية الرأي في حوار وطني لا حكر فيه ولا مصادرة لرأي أحد، لكن حين يخرج أحد رموز هذه المعارضة ويتحدث عن شروط للحوار؛ بل ينتزع لنفسه وأنصاره حق أن يكونوا هم الطرف المقابل للسلطة في الحوار، ثم يتمادى في قوله إنه إذ لم يتحقق ما نطرحه في الحوار سنعلن للشعب أنه فشل، فهذا ليس من قبيل الحرية، بل هي فتنة وعرقلة للحوار، والانحراف به عن مساره الطبيعي، وانتزاع لدور بغير حق، ويتوازى مع هذا الطرح اختزال الحوار الوطني في ملف الحريات وحقوق الإنسان، والإفراج عن المسجونين، أو مطالب فئوية معينة دون غيرها من ملفات أخرى لا تقل أهمية.
ومن تابع أيضًا مناقشات ما قبل الحوار؛ سواء ما يتم عبر شاشات التليفزيون من حوارات ومناظرات، أو ما ينشر في الصحف والمواقع سيجد أيضًا هناك خلافات تصل إلى حد تبادل الاتهامات بين أحزاب المعارضة، كل يريد أن يفرض رؤيته وأيديولوجيته، حتى إن البعض انحرف نحو الحديث في تفاصيل فرعية في القضايا، وتجاهل الأهداف الأساسية والمحورية للحوار الوطني.
وأزعم أن المعارضة التي تريد أن تكون الطرف الثاني في الحوار لا تستطيع أن تتفق على ممثليها في هذا الحوار، في ظل حالة الاستقطاب والانقسام التي ضربتها، ولا أبالغ إذا قلت إن سبب هذا الانقسام يرجع إلى أن كل الكيانات الحزبية المعارضة - كبيرها أو صغيرها - لم تكن جاهزة للدخول في نقاش أو حوار وطني له أهدافه القومية الأسمى، فقد فوجئت تلك الأحزاب - التي كانت شبه غائبة عن الشارع، وليس لديها أجندتها الوطنية الجاهزة عن الشأن الوطني - بدعوة الحوار.
وقد أصابت الأكاديمية الوطنية للتدريب - التي تتولى توجيه الدعوات للحوار- أن جعلت الدعوة عامة لعموم الشعب وفئاته ومنظماته وأحزابه ومؤسساته، وفتحت أبوابها وقنواتها وصفحاتها لتلقي الأفكار والمقترحات من المصريين أجمعين، وأعتقد أن هذه الآلية نزعت فتيل فتنة كان البعض يسعى إلى تفجيرها لإفشال الحوار، وتصدير صورة مغلوطة بأن النظام لا يريد الحوار، وقطع الطريق أمام المزايدين وأصحاب المواقف الحزبية الضيقة، والدوافع الإيديولوجية البالية، والباحثين عن انتزاع مجدٍ زائف على حساب الآخرين؛ لتحقيق مكاسب انتخابية كاذبة، وتصدير شعبية غير موجودة.
المؤكد أنه لا بديل عن نجاح الحوار، ولا مجال للتراجع عن تحقيق مستهدفاته، والضامن الأول والأخير لتحقيق ذلك هو صاحب الدعوة الرئيس عبدالفتاح السيسي، الذي أصاب في اختيار التوقيت، وما علينا جميعًا أن نتناقش ونتحاور حول المستقبل من أرضية واضحة صلبة، ومرجعية قوية ترتكز إلى أهداف ثورة 30 يونيو، ودستور 2014.. وتلك هي الانطلاقة الحقيقية للحوار التي تنظر للمستقبل وعينها على الإنجازات والمكتسبات التي تحققت..
المؤكد أن هناك أخطاء، وهناك سياسات تحتاج إلى مراجعات، والحوار الوطني الأمين الذي يتسع للجميع سوف يصل إلى رؤية شاملة لقضايا الوطن، ومن الجحود أن يتناسى البعض - في غمرة الحوار - ما تحقق، وكأن مصر تتحاور على أن تبدأ من جديد..
.. في حياة الأمم لحظات فارقة إما تستغلها وتتقدم إلى الأمام، وإما أن تهدرها وتتراجع إلى الخلف، ومصر اليوم تشهد مخاض جمهورية جديدة لدولة مدنية حديثة، وهي في حاجة إلى كل فعل وطني مسئول يدعم الوطن ويحافظ على استقراره ونهضته، ويدفع به إلى الأمام..
يقينا مصر قادرة.