راديو الاهرام

العذيبات.. وإن طال السفر (2)

2-6-2022 | 12:21

خبيئة سقارة التي كشفت عن ماض عريق للمصريين الذين عاشوا فيها قبل 2500 سنة وتركوا آثارًا بديعة، أعادتني مرة أخرى للرحلة الأخيرة إلى الدرعية بالرياض، وفي القلب منها بيت الأمير سلطان بن سلمان في العذيبات.. 
 
كما أن الأثر بعد اكتشافه وفحصه وترميمه يعطي الثقة والقيمة الاجتماعية، فبلد بلا آثار وتراث حضاري، هي بلا قيمة اجتماعية، والعلاقة بالتراث إذا جرى مقاربته بشكل صحيح، هي نقطة تحول عميقة في حياة الدول والأفراد. 
 
نحن هنا نتحدث عن تاريخ استطاع أن يصمد آلاف السنين، بينما دول أخرى تحاول صناعة تاريخ من دون جدوى. 
 
والتاريخ في الجزيرة العربية قديم، وربما لم يفطن كثيرون إلى قيمته بقدر ما قاوموه ولم يعترفوا به من الأصل، بسبب ثقافة سائدة، أو مخاوف لا أساس لها على حضارة الإسلام. 
 
لكن روح المسئولية التي لمستها في زيارتي للرياض، تسببت في نشر صورة ذهنية إيجابية عند المواطن والزائر عن التراث العمراني. 
 
ويري الأمير سلطان في كتابه "سيرة في التراث العمراني" الذي أعطاني نسخة من طبعته الرابعة (مراجعة وتنقيح الباحث المصري د. إسلام عاصم عبدالكريم) أن "ثمة قيمًا باستطاعتنا إعادة إحيائها لتسهم في حياتنا واقتصادنا".. بينما الجهود التي بذلت في إعادة الحياة إلى مواقع التراث العمراني في المملكة، وإتاحتها على المنصة العالمية مع الحفاظ على القيم السلوكية والعادات والتقاليد "أثمرت في النهاية نجاحًا في تقديم نموذج محافظ ومنفتح على ثقافات العالم"، هذا الفهم الحداثي للتراث يلغي العزلة والنبذ ويكشف العائشين في قوقعة الجهل والغرور. 
 
إن اللغة الحديثة في التعامل مع التراث والتي بدأها مفكر كبير كالدكتور ثروت عكاشة، ومعماري كالدكتور حسن فتحي في مصر، ويطبقها الآن الأمير سلطان في السعودية هي حياة الناس في الأثر. 
 
لقد شاهدت المهندس حسن فتحي في بيته رقم (4) درب اللبانة في القلعة، البيت القديم الذي يبرهن على إمكانية الحفاظ على الأثر بالمعايشة، والحفاظ على البشر بالحياة في عمارة تناسبهم.  
 
عاش في بيت درب اللبانة رسامون فرنسيون ومصريون ومن جنسيات أخرى قبل حسن فتحي، وكذلك في وكالة الغوري والمسافر خانة؛ حيث اتخذ الفنانون التشكيليون المصريون مراسمهم، بقرار من وزير الثقافة ثروت عكاشة، وفي بيت العذيبات بالدرعية الذي يعيش فيه الأمير سلطان بن سلمان، هي قوة ثقافية وعاطفية، يمكن أن تتحول في الوقت نفسه إلى قوة اقتصادية، بينما طالعت الرسومات والتصميمات التي أعدها شيخ العمارة والعمران المصري الدكتور عادل إسماعيل الفقي لإحياء محطة سكة حديد الحجاز. 
 
وإذ سمعت عن تجربة جديدة في بيوت جدة القديمة لإعادة توظيفها سياحيًا وتراثيًا وثقافيًا، فإن ذلك يعني تحقق رؤية الأمير سلطان من أن المجتمع أصبح اليوم ينظر إلى مواقع التراث العمراني على أنها جسر الثقافة ورئة المدن، وقلبها النابض وملتقى الناس.
 
تنقلني التداعيات بالضرورة إلى قصر الأميرة خديجة في حلوان، بيت السناري في السيدة زينب، وشارع المعز لدين الله الفاطمي كمتاحف مفتوحة. 
 
مرة أخرى عندما كان الأمير سلطان مرتبطًا بهيئة السياحة والتراث الوطني بات في نظر المختصين رائدًا في الحفاظ على العمارة التقليدية في الشرق الأوسط، فيما ضاعف عدد المتاحف في السعودية، وغير إلى الأبد النظرة القديمة للآثار في المملكة. 
 
ولكي نفهم قصة العذيبات فإن الأمير سلطان في سيرته يتطرق إلى ما اختزنته الذاكرة من صور شكلت اهتمامه الفطري بقيمة التراث وصنعت لديه ميلًا ذاتيًا إلى تلك البيوت التقليدية التي عايشها في أعوام الطفولة المبكرة. 
 
لكن الصدمة الثقافية التي يعترف بها حين وصل إلى المجتمع الأمريكي ليتعلم الطيران، ثم حياته في مكوك الفضاء "ديسكفري" لسبعة أيام، جعلتاه يتأكد أن وطنه ليس له علاقة بما كان يشاهده من الأعلى.
 
ويذكر في سيرته أنه قال في نفسه: إن كل حجر في جدار بناه الأجداد له معنى وله تاريخ وضع من أجل مستقبلنا، فعاد ليصب اهتمامه بالطبيعة والبلدات القديمة والناس الذين يسكنونها، ورغم أنه ليس معماريًا، لكنه فهم أن العمارة مكان من صنع الإنسان وهي أيضًا مجال إنساني يهم جميع الناس "وأنا واحد منهم". 
 
ست سنوات من شراء بيت العذيبات القديم إلى انتهاء أعمال ترميمه وإعادة بنائه، في التسعينيات، كانت مرحلة استكشاف العمارة وتراثها وتشعباتها، ومرحلة تحدي الظروف المحيطة، كانت تمارين في العزيمة والتكيف، والإيمان بقيمة التراث، خصوصًا أن أسرته الصغيرة شاركت في التفاصيل، ليتحول بيت العذيبات إلى بيت عصري بتقنيات تقليدية.
 
ولأنه شارك في بناء البيت فهو ينصح المعماريين السعوديين الجدد بأن يخوضوا تجربة البناء بأيديهم ليس من أجل أن يتعلموا صنعة، بل من أجل أن يتعلموا التواضع. 
 
ويسند الأمير سلطان إلى أسماء من ساهموا ولو بالحوار أفضال على العذيبات، مثل المعلم عبدالله بن حامد، ود. صالح لمعي، ود. عبدالواحد الوكيل، والمهندس عبدالله الدغيثر وآخرون.  

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة