احتفلت مصر مؤخرا باليوبيل الماسي لمجلس الدولة المصري (٧٥ عاما)، والذي حظي برئاسة الدكتور عبد الرزاق السنهوري لمدة خمس سنوات (١٩٤٩ - ١٩٥٤).
ونذكر القارئ الكريم بأن الدكتور السنهوري بدأ حياته في النيابة العامة، وشارك في ثورة ١٩١٩، ثم انتقل إلى تدريس القانون في مدرسة القضاء الشرعي، وهي واحدة من أهم مؤسسات التعليم العالي المصري حينها، وفي سنة 1937 م تم تعيينه عميدًا لكلية الحقوق ورأس وفد مصر في المؤتمر الدولي للقانون المقارن بلاهاي. وأسندت إليه وزارة العدل المصرية مشروع القانون المدني الجديد للبلاد، فاستطاع إنجاز المشروع، ورفض الحصول على أي مكافأة، وقد تولى وزارة المعارف العمومية (التربية والتعليم الآن) في أكثر من وزارة من عام 1945 حتى عام 1949.
ومن الحقائق التي لا يستطيع أن ينكرها باحث مدقق أو مشتغل بالقانون في مصر أو العالم العربي المعاصر حقيقة أن العلامة الدكتور السنهوري باشا هو شمس الشموس خلال القرن الماضي في مجال العلوم القانونية بإنجازاته الملموسة في ثلاثة مجالات هي التشريع والجامعة والقضاء:
فأولاً: يعد السنهوري الأب الحقيقي للعديد من التشريعات والدساتير العربية امتداداً من العراق والكويت شرقاً إلى ليبيا والجزائر غرباً، مروراً بوطنه مصر، ومازال هذا التراث التشريعي زادا متجددا للباحثين والمشرعين عبر تلك السنوات الطويلة.
ثانياً: بفضل ما أنتجه من فقه مستنير في الجامعة بدءاً من رسالته الأولى للدكتوراه في جامعة ليون عام 1926 عن مفهوم النسق القانوني، والثانية عن الخلافة، محاولاً معالجة الآثار المترتبة حينذاك نتيجة إلغاء مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك للخلافة العثمانية، وما أحدثه ذلك التطور من ردود فعل وأفكار تحديثية، وحتى نهاية العمر عندما نشر "الوجيز"، ثم "الوسيط" في شرح القانون المدني بمجلداته العشرة التي لا تخلو منها مكتبة من الخليج إلى المحيط، ومروراً بمطولة "نظرية العقد" الذي يرجع إلى بدايات الثلاثينات من القرن العشرين وسلسلة محاضراته في معهد الجامعة العربية عن "مصادر الحق في الفقه الإسلامي".
ثالثاً: الدور التاريخي الذي قام به عندما كان قاضيا حيث ترأس مجلس الدولة في الفترة من 1949 إلى مارس 1954، فقد أعطى لمجلس الدولة المصري دفعة جعلت منه نبراساً للعدالة في مراقبة وضبط الأداء الحكومي للإدارة المصرية بواسطة قسمي الرأي والتشريع وحامياً للشرعية وحقوق المواطن، فضلاً عن إصداره "مجلة" كان لها شأن بالغ في إحياء وبلورة الفكر في مجال القانون الإداري.
ولعل معظم الإنجازات القانونية للسنهوري - فضلا عن تقنيناته المدنية التي تبنتها العديد من الدول العربية في حياته وبعد مماته – يتعلق بأمرين جوهريين:
أولهما: الربط بين هذه التقنينات الحديثة الوطنية وبين تراث الأمة وتقاليد قانونية استقرت بعد إعطائها طابعاً عصرياً يتماشى مع أحدث اتجاهات القانون المقارن، ويتمثل ذلك نتاجه الفكري من خلال محاضرات معهد الدراسات القانونية لجامعة الدول العربية التي صدرت في عدة أجزاء تحت عنوان "مصادر الحق في الفقه الإسلامي"، والتي تعد نموذجاً لما يجب أن تكون عليه الدراسات الحديثة للشريعة الإسلامية كمصدر تكميلي لقواعد القانون المدني في صورته المعاصرة.
ثانيهما : وليس أقل شأناً، فهو مقاله الأشهر في مجلة مجلس الدولة حول "الانحراف بالسلطة التشريعية"، والذي يعد اللبنة الأساسية في مجال إقرار أن هناك مبادئ قانونية عليا أسمى تقيد المشرع الوطني في سنّه للقوانين مما يقتضي بالضرورة امتداد رقابة الدستورية على القوانين للتأكد من عدم تعارضها مع تلك المبادئ العليا التي تعد من المكونات الأساسية للمجتمع وحماية حقوق مواطنيه بما يتفق مع المواثيق الدولية العالمية والإقليمية في مجال حماية حقوق الإنسان ومصالح الجماعة الوطنية، وهذا هو على وجه التحديد المنطلق الذي بنى عليه قاضي الدستورية الأشهر في مصر الدكتور عوض المر مؤلفه حول الرقابة القضائية على دستورية القوانين في ملامحها الأساسية الذي شرفت بنشره جامعة سنجور وتبنته المحكمة الدستورية العليا في قضائها المستقر.
وقد اتيحت لي فرصة المشاركة منذ قرابة خمس سنوات أكتوبر 2017، في مؤتمر مهم نظمته جامعة الدول العربية بمقرها في تونس، حول التجارب الدستورية العربية، وتحدثت في دراستي بالمؤتمر عن إسهام العلامة السنهوري باشا في تلك التجارب الدستورية، وتشرفت برئاسة الجلسة الختامية للمؤتمر - والتي صدرت فيها التوصيات - الذي حقّق نتائج علمية مهمّة وكشف عن جوانب مضيئة في تراثنا الدّستوري العربي منذ أواسط القرن التاسع عشر، ودعوت إلى أن يكون هذا الملتقى حلقة أولى في سلسلة من الملتقيات العلمية تنكبّ على دراسة الدّساتير العربية من مختلف جوانبها وتعرّف بها وبالتّالي تسهم في تطويرها المستمر وفي نشر الثّقافة الدّستورية والقانونية في صفوف شبابنا ومواطنينا.
ويشرفني تلقي تعقيبات القراء الأعزاء عبر الإيميل
[email protected]