الحرب هي وقت غفلة الحضارة... هكذا تحدث "نيتشه"... نعم بالفعل هي الحضارة التي آثرت الغفوة على اليقظة، والتوجه نحو دوائر الضباب وإعلان صيحات الغضب وعشق إحساسات الصراع وتعبئة الذات بمشاعر الكراهية وممارسة لغة البطش والتكيف مع الاستجابة النفسية لسحق الآخر وتبديد الثروات في إهدار الدماء ومعاداة فكرة أن السلام أقوى من الحرب، رغم ما أكدته ظرفيات التاريخ عن صحتها وما تؤكده دراما المستقبل عن عمق مغزاها وإنسانيتها، لكن الساسة في عالمنا المعاصر لا يكترثون بمثل هذه الأفكار ولا يعنيهم معايشة الأفق الثقافى والمعرفى للحضارة لأنهم أسرى حقيقيون لأفكار التواطؤ والمؤامرة والمطامع وإبراز العداوة حتى تتصاعد مظاهرها فتكون الحرب وبالطبع تكون الحقيقة أولى الضحايا!!.
وشيء من ذلك أو كل ذلك هو ما تشهده الساحة الدولية من حرب شعواء أربكت ودمرت جمهوريات وشعوبًا وأطاحت بمقدرات ومصالح سالبة لكل أمن واستقرار وأشاعت الفزع بين قارات الأرض باعتبارها حرب القرن المستهدفة لإعادة تشكيل العقل السياسي والإستراتيجي على أثر تغير الخرائط وتبديد فكرة الأحادية القطبية، وليست البؤرة الأوكرانية غير ذلك الكنز الثمين الذي تتهالك كافة القوى الكبرى للاستحواذ عليه، فهي ثاني دول أوروبا مساحة وبها مخزون من الثروات الهائلة كاليورانيوم والحديد والمنجنيز والغاز الطبيعي والتيتانيوم والفحم وغير ذلك من امتيازات إستراتيجية رائدة تستثير كافة القوى الطامحة لتكليل أمجادها السياسية والعسكرية، فصار الموقف على نحو أن تنضم أوكرانيا لحلف الناتو وهو ما يسمح بتطويق روسيا وتهديد أمنها القومي وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل ثلاثة عقود أو الإخلال بهذه المعادلة الإستراتيجية وتدمير أوكرانيا بدلاً من تسليمها خالصة للغرب.
ومن ثم كان الخيار وانطلقت النيران تمثل محنة كبرى تقوقع فيها النظام العالمي بأسره؛ حيث بدأ غزو أوكرانيا مُجدِدًا عقلية الحرب، وكاشفًا عن عجز أوروبا وأمريكا اقتصاديًا وعسكريًا عن مواجهة العدوان، وليس العاصم من كل ذلك سوى تعهد أوكرانيا بعدم الإنضمام إلى شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي إذ إنها الدرع الواقية لروسيا من التمدد الغربي سياسيًا وعسكريًا وثقافيًا واقتصاديًا، فضلاً عن كونها تمثل الجذور التاريخية المتصلة بالهوية الروسية، تلك الهوية التي يسعى بوتين جاهدًا لجمع شتاتها وتقويمها انطلاقًا من تلك الفكرة الملحة والمسيطرة والتي بلغت لديه أن تمثل معتقدًا أيديولوجيًا يرتكز على أن انهيار الاتحاد السوفيتي كان أكبر حدث جيوسياسي في القرن العشرين، ومن ثم فالمعادلة المنطقية لديه كانت تحتم استلهام الطابع العقلى "لإيفان الرهيب" و"بطرس الأكبر" و"كاترين العظمى" التي رددت كثيرًا.. لو عشت مائة عام لأخضعت أوروبا وضربت عنجهية الصين وفتحت أبواب التجارة مع الهند.. وطبقًا لهذا النهج كان التصدي من جانب "بوتين" للكتلة الغربية وأملاً في استرداد المثلث التاريخي الذي تأتي على رأسه روسيا الكبرى وروسيا الصغرى (أوكرانيا) وروسيا البيضاء (بيلاروسيا).
وعلى ذلك هل يمكن تصنيف الحرب الأوكرانية على أنها حرب ثروات تحاول أطراف الصراع تحقيق الهيمنة المطلقة للاستحواذ عليها اتساقًا وتواصلاً مع تاريخية النهب الشهيرة؟ وهل يمكن أن تكون الإستراتيجية الأمريكية قائمة على استفزازية سياسية مضمونها دعوة أوكرانيا للانضمام إلى الناتو انطلاقًا من علمها بمدى معارضة روسيا على ذلك، وطبقًا لبوتين فإنه سيدك أوكرانيا ومن ثم تسنح الفرصة لأمريكا بدعمها عسكريا وإضعاف الاقتصاد الروسي أو شله واستنزافه بجره لحرب طويلة الأمد؟ هل تمثل الحرب الأوكرانية نقطة اللاعودة للنظام القديم وفي ذات الآن هي إرهاص لنظام جديد؟ وطبقًا لمنطق الاحتمالات فإنه إذا خسر "بوتين" هذه الحرب تصعد نسبة هشاشة الأمن القومي الروسي وإذا ربحها تكون ذات تأثير مباشرة على خريطة الأمن القومي الأوروبي؟ وهل كانت الحرب الأوكرانية تمثل النتيجة المباشرة نظرًا لما تمثله روسيا فى حقد الجغرافيا كما تحدث "تيم مارشال"؟ وهل تمارس السياسة الأمريكية خلال هذه الحرب إستراتيجيتها بعدم السماح لأي قوة في آسيا أن تهيمن على القارة؟ وهل يدخل في حتميات الكبرياء الروسي أن يكون تدمير أوكرانيا أسهل كثيرًا من تسليمها للغرب لتكون ذريعة لتطويق روسيا وإعادتها إلى ما كانت عليه في العِقد الأخير من القرن الفائت؟ وهل وحدت هذه الحرب أمريكا وحلفاءها نحو هدف واحد هو سحق الاقتصاد الروسي؟ وهل تمثل إستراتيجية فرض العقوبات رادعًا قويًا لإنهاء الحرب؟ وهل كانت تجربة طوفان العقوبات ذات جدوى مع طموحات إيران النووية؟ وهل يراد طمس الشفرة الجينية الروسية بحيث تساوم على المجد الإمبراطورى ولا تقاوم الظلم الغربي؟ وهل يشهد العالم مواجهة نووية وشيكة بعد حظر استخدام هذه الأسلحة منذ ما يزيد على نحو خمسة وسبعين عامًا؟ وإلى أي مدى زمني يمكن للعالم أن يعالج آثار هذه الحرب وانعكاساتها سياسيًا وإستراتيجيًا واقتصاديًا وثقافيًا؟ أم أنه ليس في حاجة إلى هذا المدى الزمني لأن تصاعد وتيرة الحرب النووية يُعد الممثل الفعلي لطوفان الإبادة البشرية؟.
ولعل مشهد الحرب المعاصرة إنما يدخل ضمن تصنيف المرحليات التاريخية المشيرة لدينامية التغيير الجذري في النظام العالمي كل ربع قرن، والتي أقرها المفكر الأمريكي "جورج مودلسكي" واصفًا الأولى فيها بأنها فترة الحرب الكونية والفوضى، أما الثانية فتظهر فيها قوة مهيمنة، بينما الثالثة تبدأ فيها تآكل شرعية هذه القوة المهيمنة والرابعة هي فترة شتات موازين القوة من المركز إلى الأطراف وبذلك يمكن العودة إلى المرحلة الأولى.
تلك هي بعض من ملامح فلسفة التاريخ تجاه الحروب وإيقاعات صعود وهبوط القوى العظمى وتبدل موازين القوة طبقًا لمؤشر البوصلة الإستراتيجية القائم في جوهره على متغيرات لا تحصى، وإذا كانت الرؤية الغربية تنطلق من أرضية استعلائية لتشتيت فكرة الاستقطاب بالنسبة لأوكرانيا باعتبارها عديمة القيمة ولا تمثل أية إضافة لأمن أوروبا وأمريكا فضلاً عن كونها دولة فقيرة تعايش أجواء الفساد منذ ثلاثة عقود، وكذلك لا تمثل معنى ثقافيًا يمكن الاعتداد به، بينما هي في الرؤية البوتينية كانت لقرون جزءًا من روسيا وأن إعادة توحيدها مع دول ما بعد الاتحاد السوفيتي في قوى عظمى عابرة للقارات هو تصحيح لمواقف خاطئة، وليست أهداف بوتين من هذه الحرب سوى الاعتراف بالجمهوريتين الجديدتين في إقليم دونباس ودونيتسك ولوغتسك وتعهد أوكرانيا بعدم الانضمام لحلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي، ولعل لهذه البانوراما الجيوبوتيكية مرجعية فكرية قدمها الكاتب الشهير "سولجنتسين" حين قال إن أوكرانيا وروسيا ممتزجتان في قلبى ودمى وفكرى، لكن حواراتي مع الأوكرانيين في معسكرات الاعتقال أكدت لي مدى الحقد الذي يحملونه ضد الروس؛ لذا فإن جيلنا لن ينجو مع الأسف من أن ندفع ثمن أخطاء أبنائنا.
وبصفة عامة فالحرب الأوكرانية التي أشعلت العالم شرقًا وغربًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وأحدثت خللاً مباشرة في العلاقات والتحالفات الدولية وصدرت أزمات حادة ووضعت الأنظمة كافة أمام تحديات مرعبة وكشفت هشاشة المنظمات الدولية وعدم فاعليتها وشككت في مصداقيتها وألقت في روع الشعوب عدم جدوى بقائها واستحالة استمرارية النظام العالمي دون أن تكون لروسيا قدم وساق وجعلت العالم يواجه كارثة متشعبة الأوجه يصعب وربما يحال تطويقها إلا باستحضار وتوظيف المعادلة الماسية القادرة على جمع كل المتغيرات التي تتشكل منها تلك الحرب اللاتماثلية والتي يخسر فيها الروسي إذا لم يربح ويربح الأوكراني إذا لم يخسر، لكن لكل حرب دروس تؤخذ منها، وكل حرب تنتج أجيالا جديدة وإذا كانت هناك عقود لم يحدث فيها شيء، فهناك أسابيع تحدث فيها عقود!!.
وبالطبع لا غرابة في ذلك إذا كنا نتحدث حول حضارة أفرزت من معان اللاطمأنينة ما يشبع نحو ثمانية مليارات من البشر!!.