كلما تقدم الإنسان تكنولوجيًا خطوة، تراجع إنسانيًا آلاف الخطوات، وفجأة يجد الإنسان نفسه قد أصبح فريسة سهلة للضغوط النفسية، ويضيع الإحساس بالأمن، ويتلاشى الإحساس بالمتعة والسعادة.
وانتشرت ظاهرة الاغتراب النفسي في كثير من المجتمعات؛ وتنشأ تلك الظاهرة نتيجة الصراعات الداخلية المكبوتة، وتتسبب في معاناة شديدة لا يشعر بها سوى الإنسان نفسه.
نعيش في عالم داخلنا مغلق على أنفسنا، لا يشعر بنا الآخرون، فقدنا الشعور بذاتنا وأصبحنا موجودين مع من حولنا بأجسادنا دون أرواحنا، غير منسجمين معهم، ننظر إليهم وكأنهم خشب مسندة، فقدنا الثقة فيهم، ونشعر بالقلق والعدوان، ونرفض القيم والمعايير الاجتماعية، نسمع كلمات من حولنا ولا نعلق عليها، ونلوذ بالصمت، ونتخذه رفيقًا لنا، فما أصعب أن تشعر بأنك أنت الحاضر الغائب.
وعندما نشعر بالاغتراب الذاتي يفترسنا الإحباط، وتنهشنا الأفكار السلبية والنظرة التشاؤمية، وندخل في مرحلة أخرى أصعب؛ ألا وهي الاغتراب الاجتماعي، وكأننا نعيش في سجن عالية أسواره، نحن سجناؤه وسجانوه.
ويصبح تفاعلنا مع من حولنا عبئًا ثقيلًا على أنفسنا، وتضيق صدورنا، ونحاول خلق عالم خاص بنا يمكن أن تكون له معايير صحيحة، ولو حتى من وجهة نظرنا.
وقد أكد علماء الاجتماع أن ظاهرة الاغتراب هي من أهم وأخطر المشكلات الاجتماعية التي تواجه الإنسان في الوقت الحالي، خاصة فئة الشباب، وتؤدي إلى التفكك الأسري، وضعف التواصل والتفاعل بين أفراد الأسرة الواحدة، وتنسحب بالتالي إلى المجتمع.
وللتغلب على تلك الظاهرة - التي انتشرت للأسف الشديد في الأسرة العربية - لابد من التنبيه إلى التنشئة الاجتماعية السليمة، وتفعيل دور كل من الأب والأم بالتربية الإيجابية، والبعد عن الاضطرابات داخل الأسرة التي تؤثر بالتأكيد على الطفل، ومن ثم المراهق الذي يشعر بالاغتراب نتيجة النقد الشديد والتهكم والسخرية التي تجعله ينسحب ويغترب عن ذاته.
لابد من التنقيب عن الثروات والكنوز واللآلئ التي تكمن داخل النفس البشرية، وما علينا إلا أن نبحث عنها ونستخرجها، ولا نجعل العقل الباطن يتوهم أشياء غير صحيحة تجعلنا نشعر بالعجز والفشل ومن ثم الهروب من الواقع بأشكاله المختلفة، وما يترتب عليه من نتائج سلبية.
وقد وضع "هيجل" حلًا لمشكلة الاغتراب وقال: "الحب يجعل الاغتراب يتلاشى"، وذلك لأن الإنسان عندما يشعر بالحب ممن حوله يبدأ الإحساس بالاغتراب في التلاشي، كما طالب "هيجل" الوالدين بدعم قدرات أبنائهم الموجودة لديهم دون إفراط أو تفريط.
ولمَ نذهب بعيدًا وقد وجدنا في القيم الدينية الحماية من ذلك الاغتراب؟، فعندما توجد القدوة الصالحة متجسدة في كيان الأب أو الأم أو الأخ الأكبر أو المعلم، فلن يشعر الشباب بالاغتراب النفسي، ويملأهم الهدوء والسكينة، وكيف يشعر الإنسان بالغربة وهو في معية ربه سبحانه وتعالى يقرأ قرآنه ويتدبر معانيه؟!، فقراءة القرآن الكريم في حد ذاتها وتدبر معانيه من أعظم أسباب صفاء النفس وذهاب الأحزان والهموم والغموم، وتجلب الطمأنينة للنفوس والقلوب، يقول الله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» صدق الله العظيم.
* استشاري علم النفس والإرشاد الأسري والتربية الخاصة