راديو الاهرام

لماذا اندهش أشرف؟!

29-5-2022 | 16:06

في الصيف الماضي وبين أروقة إحدى كليات الإعلام، كان أحد الطلبة قد انتهى أمام لجنة التحكيم من عرض فيلمه المُقدم كمشروع لتخرجه، سألته بصفتي أحد أعضاء اللجنة، عن سبب كتابته لاسمه كمخرج للعمل فوق شارة النهاية بشكل غير صحيح! اندهش وشرع يتأمل الشاشة الكبيرة بالقاعة كأنه يتدبر الأفلاك! ثم عاد والتفت نحوي موكدًا وبكل ثقة أن اسمه مكتوب بشكل صحيح ولا خطأ فيه! وحين رددتُ عليه تضاعفت دهشته، وفي أغلب الظن لم يضع ما أقول إلا في خانة التفاهة. رُبما تحول مجتمعي حاد كان يقف خلف تلك اللحظة.
 
قبل أكثر من ثلاثين عامًا، وعلى سبيل المثال كان التحاق أبناء الطبقة الوسطى بالمدارس الخاصة شأنًا لا يدعو الأسر إلى الفخر، وعلى النقيض، كان الانتساب بقلب القاهرة لمدارس حكومية من طراز السعيدية، الخديوية، الطبري أو إسماعيل القباني، من الأمور التي تبعث الزهو في نفوس أصحابها، فهذا كان يعني أن الطالب قد التزم وثابر وحصد حتى أهله مجموعه بالشهادة الإعدادية إلى القبول بتلك المدارس العريقة، ومَن يُعرف عنه أن التحق بمدرسة خاصة، ندرك تمامًا أن مستواه التعليمي أدنى من الذهاب لمدرسة محترمة. ثم توالت سنون حقبة مبارك وزوجته وولديه سريعة، تدهور التعليم مع كل ما تدهور وانقلبت المائدة رأسًا على عقب! أصبحتْ المدارس الخاصة دليلًا على الارتقاء الاقتصادي والصعود الاجتماعي، وصارت المدارس الحكومية مأوى الفقراء والمهمشين، واستحال الانتساب لها برهانًا على رقة الحال. وهكذا اجتذبت المدارس الخاصة بلغاتها الأجنبية القطاعات الطامحة لأبنائها بتعليم ومستقبل أفضل، تنامى مع هذا التوجه تدهورٌ مستمر في مستوى اللغة العربية لدى الطلاب باعتبارها هامشية ثقيلة الظل، مع إتقان كامل للغة أجنبية هي الرئيسة. اعوج اللسان واُستمرئ الضعف في اللغة الأم، حتى إن بعض العائلات تباهوا أن "ابنهم المعجزة" مدرسته أجنبية ولا يجيد العربية. هنا كان يجب علينا أن نسكت قليلًا خشية أن تُفقع مرارتنا، سيَّما وأن العلماء لم يتوصلوا بعد إلى مرارة بديلة مصنوعة من اللدائن!
 
ثم مرتْ الأيام، رسخ في وجدان كثيرين أن نطق العربية وكتابتها سَليمة مأساة لا ضرورة لها. المؤسسات والشركات كانت تشترط إتقان اللغة الأجنبية ولا عار أقسى من اللحن في الإنجليزية! أما العربية بالمكاتبات الرسمية وغير الرسمية، فالخطأ فيها صار مباحًا وغير مستهجن. وكان الإعلام حتى وقت قريب، مجالًا غير مسموح فيه بلغة عربية غير منضبطة، لكن الحال تغير! صرنا أمام قنوات متلفزة تشعر وكأن بعض العاملين فيها يشكلون تنظيمًا سريًا في قبو أسفل مدينة الإنتاج الإعلامي، يخططون فيه كل يوم لاغتيال اللغة العربية! إحدى القنوات كتبت لفظ الجلالة "الله" بالتاء المربوطة! ولا فارق بين الـ "س" والـ "ث"! كثيرون يكتبون"مساءًا" وهم يقصدون "مساءً"، أما رسم همزة القطع والوصل فهذا من زخرف الحياة الدنيا! صرنا أمام صفحات أولى وأغلفة تصرف الممنوع من الصرف بدم بارد وخط عريض! سيتسرب شكٌ إليك وستمرح الفئران في عُبك من فرط ارتيابك بأن مجالس تحرير بعض الصحف لا تستهدف كل نهار إلا القضاء على العربية!
 
نحن جميعًا وإلى الأبد سنظل نخطئ ونتعلم، لكن العار، كل العار، استصغار خطيئة الجهل بمبادئ اللغة التي هي أداة رئيسة في التواصل سيَّما للعاملين بالإعلام، فهذا مثل قصاب لا يجيد القطع بالسكين، وحلاق لا يتقن ضرب المقص! هذا ما حاولتُ إيصاله لطالب الإعلام المندهش الواقف فوق عتب سوق العمل، وقد فوجئ مني، بعد سنواته الطوال في التعليم، أن اسمه يكتب بهمزة فوق الألف.."أشرف".
  
للتواصل مع الكاتب عبر تويتر: twitter.com/sheriefsaid

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة