نحاول هنا وبطريق المنهج العلمي الخالي من التحيز الشخصي أو قلب الحقائق أن نشخص ظاهرة التضخم حول العالم وبهدوء شديد بغرض النفع العام ومقاومة الجهل المتزايد نحو معالجة هذا الموضوع الحيوي.
في البداية نلاحظ تزايد التضخم في جميع أنحاء العالم في الفترة الأخيرة وفي مصر أيضًا، حيث وصلت أسعار الغذاء والطاقة إلى مستويات قياسية ومؤثرة، و كان الدافع وراء الارتفاع في جزء كبير منه هو هذا التزايد غير المسبوق في الطلب والذي يطلق عليه خبراء الاقتصاد "الطلب الاستهلاكي المكبوت" ويطلق عليه باللغة الانجليزية pent-up consumer demand، وخاصة في ضوء التعافي التدريجي من آثار جائحة كوفيد-19 وموضوع الحرب الروسية - الأوكرانية غير المدروسة نتائجها وتوابعها؛ حتى الآن كما يبدو لنا، نحاول في هذا المقال أن نشرح سبب ارتفاع التضخم حول العالم ومتى يمكننا توقع تخفيف حدته والسيطرة عليه في ضوء قراءة متأنية للمشهد حول العالم.
يلاحظ من قراءة المشهد أن التضخم آخذ في الارتفاع، وهناك احتمال حدوث أزمة متمثلة في ارتفاع تكلفة المعيشة تلوح في الأفق للكثير من الناس في كثير من الدول حول العالم، فقد شهد شهر أبريل الماضي ارتفاع مؤشر أسعار المستهلكين (CPI) بنسبة 8.3٪، بينما ظل التضخم في الولايات المتحدة عند أعلى مستوى له في 40 عامًا، تمثل التضخم في ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة حول العالم في أعقاب جائحة كوفيد-19، وبسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، فقد سجل مؤشر أسعار الغذاء الشهري الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، والذي يتتبع أسعار السلع الغذائية المتداولة عالميًا، زيادة بنسبة 12.6٪ بين فبراير ومارس ليصل إلى أعلى مستوى منذ إنشائه في عام 1990، وارتفع مؤشر الفاو لأسعار الحبوب بنسبة أكبر - 17.9٪ - خلال هذه الفترة، مما يعكس ارتفاع الأسعار العالمية للقمح والحبوب الخشنة، ويرجع ذلك إلى اضطرابات الصادرات من أوكرانيا، كأحد أكبر مصدري القمح في العالم، وتسببت الحرب الروسية - الأوكرانية أيضًا في ارتفاع أسعار النفط - التي كانت مرتفعة بالفعل بسبب الطلب الاستهلاكي المكبوت بعد فترة كوفيد-19 - إلى أكثر من 110 دولارات للبرميل، حيث فرضت العديد من الدول الغربية عقوبات صارمة على روسيا رداً على ذلك.
والسؤال هو من أين يأتي التضخم اليوم؟
يمكن لنا القول وبثقة عالية إن الارتفاع الحالي في التضخم يوصف بأنه "تاريخي"، لكننا نتوقع ألا يستمر التضخم عند هذه المستويات لفترة طويلة، وعند البحث عن إجابة لهذا التساؤل وجدنا أن الطلب الاستثنائي على السلع في عام 2021 وهو العام الذي خرجت فيه البلدان حول أنحاء العالم من عمليات الإغلاق عقب انتهاء جائحة كورونا؛ حيث فتحت المتاجر أبوابها، وتمكن الناس من الخروج وشراء الأشياء بالمال الذي تم توفيره خلال أسابيع من عدم النشاط الاقتصادي لأن هذا أعطى ميزة إضافية لميزانية الأسر في ظل غياب عمليات الإنفاق التقليدية خلال فترة الإغلاق أثناء تفشي الجائحة، كما يتضح أن السبب الآخر والأهم تمثل في تزايد المخاوف من أن استمرار الحرب الروسية - الأوكرانية سيؤثر على عدم انتظام سلاسل التوريد العالمية فترتب على ذلك هجمة شرسة على عمليات الشراء خلال الفترة الماضية مما ساعد على ارتفاع أسعار السلع الغذائية والطاقة بشكل غير طبيعي فترتب على ذلك بزوغ هذه المستويات غير الطبيعية في معدل التضخم حول العالم.
مسألة العرض والطلب
عقب هذا التطور حدثت هذه الزيادة غير العادية في الطلب على السلع والتي أدت إلى دفع التضخم، لأننا شهدنا بالفعل أيضًا زيادة غير عادية في المعروض من السلع، لكن الطلب على السلع كان غير عادي لدرجة أنه طغى على العرض وعندما يكون الطلب أكبر من العرض، فإنك إما تحصل على نقص أو تحصل على زيادات في الأسعار، لم يكن لدينا توازن بين الاثنين، لكن بعضًا من هذا الارتفاع في الطلب أدى إلى ارتفاع الأسعار.
الآن، بدأ ذلك في التلاشي؛ لأنه بحلول نهاية العام الماضي في عدد من البلدان، حيث اختفى المخزون من مدخرات المستهلكين نتيجة فترة الإغلاق خلال جائحة كورونا، وبالتالي بدأ الطلب على السلع والخدمات ينخفض، ومع هذا، ما زلنا نتعرض لبعض ضغوط التضخم لكنها في طريقها للخروج.
وإذا نظرت، على سبيل المثال، إلى أسعار التليفزيون في الولايات المتحدة أو في أي مكان آخر حول العالم، فقد كانت ترتفع العام الماضي وتنخفض الآن، فلديها الآن تضخم سلبي بالفعل؛ لذلك بدأنا في رؤية تصحيح للسوق، ولكن لا يزال هناك ما يكفي من آثاره المستمرة التي تزيد من التضخم.
عواقب الحرب الروسية - الأوكرانية
ما إن بدأ التضخم المدفوع بالطلب في التلاشي مع نهاية العام الماضي 2021م، برزت لنا الحرب في أوكرانيا لتكون سببًا مفاجئًا لأزمة اقتصادية جديدة حول العالم فدفعت مرة أخرى معدل التضخم للارتفاع بشكل غير مسبوق، فبالإضافة إلى جميع أنواع العواقب الإنسانية الأخرى (للحرب)، وهي مسألة مأساوية للغاية قطعا، لكن هناك أيضًا عواقب اقتصادية وهي أنه على الرغم من أن روسيا ليست في الواقع مهمة كاقتصاد مؤثر عمومًا وفقًا لحجمه من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بالدول الكبرى الأخرى كأمريكا والصين، إلا أن روسيا تحتل أهمية كبرى في سوق السلع الأساسية، أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار السلع، ويرجع ذلك جزئيًا إلى وجود قيود على العرض - إما لأن موسم زراعة المحاصيل في أوكرانيا كان محدودًا أو لأن الشركات أقل استعدادًا لشراء النفط الروسي، على سبيل المثال - ولكن أيضًا بسبب وجود مخاطر ليس بسبب التخوف من نقص العرض فقط، لكن بسبب المخاوف من أن تؤدي الحرب هناك إلى تعطيل سلسلة الإمدادات في المستقبل. ومن هنا، أدت هذه الزيادة في أسعار السلع الأساسية إلى التضخم الناتج من هذه الحرب. ففي الدول المتقدمة اقتصاديا يبلغ حجم ما ينفق على الغذاء ما بين 15%-20% من ميزانية الأسرة.
ماذا عن أسعار النفط؟
سعر برميل النفط الخام له عواقب على أشياء مثل الطعام، وتذاكر الطيران، والبنزين، وما إلى ذلك - لأن كل هذه الأشياء تعتمد على الوقود، لا تصب برميل من النفط الخام في خزان سيارتك فقط، لكننا ندفع ثمن الطعام، والبنزين، وتذاكر الطيران، وما إلى ذلك، وكلها أشياء تعتمد بصورة كبيرة على الوقود، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة العمالة لأن صناعة التجزئة الخاصة بالسلع الغذائية من الصناعات كثيفة العمالة، كما قلنا سابقًا الاقتصادات المتطورة، تنفق ما بين 15-20٪ مما تنفقه على الغذاء، بالإضافة إلى ما ينفق على العمالة، والمسئولة عن أعمال التسليم والمعالجة والبيع بالتجزئة والإعلان، كل ذلك حتما يؤثر في حجم ما ينفق على رغيف الخبز مثلا، لكن المزارع لا يحصل في الواقع على قدر كبير من هذه الزيادات، لكنها تنصب في تكلفتي الوقود وأعمال النقل والتجزئة الخاصة بالإنتاج والتوزيع ما بعد عملية الحصاد.
وعلى الصعيد العالمي، إذا نظرت إلى أسعار النفط، فإن تأثير زيادة سعر النفط الخام ينحصر في أقل بقليل من 2.5٪ من سلة التضخم النموذجية.
وبعد ذلك لديك الكثير من العمل لتحويل هذا الزيت الخام إلى بنزين. ومع ذلك، إذا ارتفع سعر النفط الخام بنسبة 100٪، فسيضيف ذلك أقل من 2.5٪ إلى معدل التضخم الرئيسي، وهذا ما يحدث إلى حد كبير في الوقت الحالي.
والسؤال الآن: هل بلغ التضخم ذروته؟
الإجابة على هذا التساؤل حتما ترتبط بشكل مباشر "عن أي دولة نتحدث؟"، إذا كنا نتحدث عن الولايات المتحدة، يعتقد الخبراء أن التضخم قد بلغ ذروته في مارس 2022م، وإذا كنت تتحدث عن المملكة المتحدة، سيكون الوقت لذلك متأخرًا قليلًا وفي أوروبا عمومًا، ستكون ذروة التضخم في وقت لاحق من هذا العام، وبصفة عامة نعتقد أن اتجاه التضخم في النصف الثاني من هذا العام 2022م، سيكون اتجاهًا تنازليًا كما يتوقع ذلك أيضًا معظم خبراء الاقتصاد حول العالم، لثلاثة أسباب يمكن ذكرها هنا باختصار:
السبب الأول هو تلاشي الطلب:
تشهد العديد من المجالات التي ارتفعت فيها الأسعار العام الماضي بسبب الطلب الاستثنائي انخفاض معدل التضخم، في بعض الحالات الأخرى، تحول معدل التضخم إلى مستوى سلبي، سيحدث هذا للمزيد والمزيد من السلع بحلول عام 2022. ونتوقع أيضًا أنه مع تلاشي الطلب الاستثنائي، ستتلاشى الأسعار غير العادية أيضًا.
السبب الثاني يتمثل في تأثيرات الأساس لحساب معدل التضخم:
الطريقة الأكثر شيوعًا لعرض التضخم هي التغيير السنوي في السعر، هذا يعني أن معدل التضخم السنوي الذي نقتبسه دائمًا يخبرنا ليس فقط عن الأسعار اليوم، ولكن أيضًا عن أسعارنا قبل عام، لذا فإن ما قلناه في شهر مارس من هذا العام يُقارن بالأسعار في الاقتصاد العادي في مارس 2022، مع الأسعار في اقتصاد مغلق في مارس 2021 بالطبع، إذا كنت تقارن الوضع الطبيعي بالإغلاق، فسيكون هناك تغيير في الأسعار، والذي سيكون كبيرًا جدًا خلال هذا العام، وبحلول يونيو، سنقارن، على الأقل في الولايات، مستوى الاقتصاد الطبيعي في يونيو 2022 بالاقتصاد العادي في يونيو 2021، ومن الواضح أن تغير السعر سيكون أقل دراماتيكية في تلك المرحلة؛ لذلك سيؤدي ذلك إلى خفض معدل التضخم على أساس سنوي.
السبب الثالث يرجع إلى أن تكلفة الأجور إلى السعر تأخذ الشكل الحلزوني:
نحن لا نرى تكاليف الأجور (على عكس الأجور في حد ذاتها) ترتفع حقًا بطريقة تضخمية في الوقت الحالي. فتشكل الأجور حوالي 70٪ من التضخم في الاقتصاد المتقدم. يعتبر التمييز بين تكاليف الأجور والأجور تمييزًا مهمًا، إذا حصل الناس على أموال أكثر لأنهم يعملون بجد، فهذا ليس تضخمًا، في معظم الاقتصادات، يعمل الناس بجد أكبر، وبشكل عام في الاقتصادات المتقدمة، سيكون الناتج الاقتصادي والناتج المحلي الإجمالي أعلى من مستويات ما قبل جائحة كوفيد-19، لكن سيكون التوظيف أقل من مستويات ما قبل الجائحة، وهذا يعني أن هناك عددًا أقل من الأشخاص العاملين ينتجون كميات أكثر أو بإنتاجية أعلى.
والسؤال الأن: ما هو الحل؟
علينا ان ندرك أن أفضل الأشياء التي يمكن أن تفعلها الحكومات هي ألا تفعل شيئًا غير طبيعي، فإذا لم تستطع الحكومات تغيير سعر النفط بصورة فعلية، فلن يتمكن محافظو البنوك المركزية فجأة من تغيير سعر القمح والسلع الأخرى أو كبح موضوع التضخم، وعلينا أن نعي أن جزءًا من قصة تضخم الأسعار حول العالم ينخفض حاليًا بالفعل وبشكل طبيعي، كما أن عوامل أخرى مثل تأثير الحرب الروسية - الأوكرانية على أسعار الغذاء والوقود هي خارج نطاق تأثير معظم الحكومات، ومع ذلك، فإن السؤال مختلف عندما يتعلق الأمر بما إذا كان ينبغي على الحكومة أن تحاول التخفيف من عواقب ارتفاع التضخم، هناك أشياء يمكن للحكومات القيام بها، فيمكنهم مثلا إما النظر في الفوائد التي يتم دفعها لمحاولة مساعدة الناس للحصول على دخول أعلى، لشراء السلع التي ارتفعت أسعارها أو تلك التي يفرض عليها ضرائب مرتفعة، وغالبًا ما يتم فرض ضرائب على النفط، على سبيل المثال، لذلك قد تشعر بعض الحكومات أنها يمكن أن تخفض الضرائب المفروضة عليه مؤقتًا، أو تخفض ضرائب المبيعات على المنتجات الأخرى لمحاولة جعل الحياة ميسورة التكلفة قليلاً؛ لذلك هناك أشياء يمكن للحكومات القيام بها للتخفيف من تأثير تكلفة المعيشة على المدى القصير، حتى لو لم تتمكن من تغيير العرض والطلب على النفط، وإذا كنا نتحدث على مدى السنوات العشر القادمة، فيمكن بالطبع للحكومات تشجيع الاستثمار في الطاقة المتجددة وما إلى ذلك، ولكن على المدى القصير، هناك حد لما يمكن أن تفعله الحكومات لتعويض ارتفاع الأسعار.
وفي الختام
نجد أن التضخم غير العادي ظهر نتيجة ارتفاع أسعار الوقود، وتزايد الطلب المكبوت عقب الخروج من جائحة كوفيد-19، بالإضافة إلى مسألة الحرب الروسية - الأوكرانية، تم التعافي الجزئي من ارتفاع معدل التضخم بنهاية العام الماضي 2021م، إلا أن الحرب الروسية - الأوكرانية أعادت هذا المعدل للارتفاع وخاصة في أوروبا نتيجة ارتفاع أسعار الوقود والسلع الأساسية المنتجة من روسيا، إلى أن التوقعات بإذن الله هي أن معدل التضخم سوف يتلاشى تدريجيا في النصف الثاني من العام الحالي 2022م نتيجة لتلاشي مشكلة ارتفاع الطلب المكبوت، بسبب السيطرة علي ارتفاع تكلفة العمل، وأخيرا بسبب تغير الأساس الخاص بحساب معدل التضخم والمتعلق بالقياس بعد عودة النشاط إلى طبيعته؛ حيث إننا كنا نقارن عام تخلله جائحة كورونا وهو عام غير طبيعي بعام آخر طبيعي وهو عام الخروج من الجائحة وبالتالي عندما يستقر العالم بعد الجائحة سيعود التضخم لطبيعته، ويتبقى للحكومات، قضايا هامة تساعد في السيطرة علي التضخم منها السيطرة علي أسعار النفط أو إيجاد بدائل لها تعويض السكان بفوائد أعلى على مدخراتهم للتغلب على التضخم في الأسعار، وخاصة في السلع الأساسية مع ضرورة زيادة الإنتاج وتوفير بدائل محلية للسلع المتأثرة بالأزمات العالمية وخاصة الغذائية، وأخيرًا مطلوب رفع كفاءة إنتاجية العمالة لتلاشي آثار ارتفاع الأجور على أسعار السلع مع ضرورة البحث عن مصادر بديلة للطاقة، وهنا مصر ممكن تستبدل البنزين بالغاز الطبيعي لتقليل عملية استيراد الوقود، وبالتالي ضبط أسعار السلع المتأثرة به، ولذا علينا جميعًا التفاؤل؛ لأن هذه بالفعل ما تقوم به الحكومة المصرية بقيادة حكيمة من الرئيس عبدالفتاح السيسي، وبرز بشكل واضح في تصريحات الحكومة ومحافظ البنك المركزي الأخيرة.
* عميد كلية التجارة – جامعة القاهرة