هناك من يرى أن التغيير الذي يحدث في قرى مصر وتقوده مبادرة "حياة كريمة" هو تغيير في الحجر فقط، ولكن من يرى الصورة من قريب يكتشف أن التغيير أصبح في عقول شباب وأهالي تلك المناطق التي كانت مهملة بشكل كبير، فقد أصبحت تلك الأماكن سواء القرى أو المناطق العشوائية مصدرا لتدريب الشباب وتأهيلهم لسوق العمل، بجانب إتاحة الفرصة لهم لتأسيس مشروعاتهم الصغيرة، ويشارك الشباب أنفسهم في عملية التغيير، فقد تحولت إحدى القرى من قرية مصدّرة للهجرة غير الشرعية إلى قرية تحارب السفر على مراكب الموت، وتحولت منطقة أخرى من وكر للبلطجة إلى مركز لتدريب الشباب، حكايات عديدة عن التغيير ترويها قرى مصر في السطور التالية..
من مراكب الموت إلى محاربة الهجرة غير الشرعية
كثير من القرى معروف عنها أنها مصدّرة للهجرة، ومنها قرية "تطون" بمركز أطسا في محافظة الفيوم، والتي يطلقون عليها لقب "إيطاليا الفيوم"، ويحاول العديد من شبابها الهجرة على مراكب الموت، ولكن مؤخرا ظهر بعض الشباب الذين أرادوا إنقاذ أقرانهم من الموت غرقا، ومحاولة محاربة الهجرة غير الشرعية.
ومن هؤلاء إسلام إبراهيم، الذي يقول: هناك أكثر من 40 ألف شاب سافر من تطون والقرى التي حولها إلى إيطاليا، فالسفر إلى هناك حلم كل شاب، وقد حاولت الحصول على فرصة للسفر ولكني لم أوفر الأموال التي احتاجها السمسار من أجل السفر، وهناك كثيرون غرقوا في البحر، وفقدنا العديد من شباب القرية، ومؤخرا بدأنا كمجموعة من الشباب توعية الآخرين بخطورة تلك الهجرة، وخصوصا بعد أن وجدنا اهتماما من الدولة بشباب القرى، فمبادرة "حياة كريمة" جعلتنا نشعر بأن مكاننا هنا وليس في أي مكان آخر، وأن هناك الكثير من الفرص التي تغنينا عن خطر السفر بطرق غير شرعية، فقد جاءت مبادرة "مراكب النجاة" إلى قريتنا، وكانت توعينا بمخاطر الهجرة غير الشرعية والبدائل الإيجابية المتاحة، وحضرت السفيرة نبيلة مكرم وزيرة الهجرة، وكان هناك مسئولون من جهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، وبدأنا نعرف كيفية إقامة تلك المشروعات، والفرص التمويلية المتاحة، وبدأنا نتحدث مع بقية الشباب والأهالي بالقرية، وبالفعل كان هناك استجابة كبيرة، طالما أن هناك بدائل محترمة، وبدأ عدد من شباب القرية تنفيذ مشروعاتهم داخل القرية، وبعد أن كانت القرية مصدرة للهجرة غير الشرعية نحاول أن نحاربها، ونحاول أيضا تغيير الصورة الذهنية عن القرية.
وفي العام الماضي أعلن الدكتور أحمد الأنصاري- محافظ الفيوم- عن تخصيص 16 مليون جنيه لتأسيس مشروعات للشباب ببعض قرى الفيوم، ومنها تطون، وذلك لمجابهة الهجرة غير الشرعية، ومن الشباب الذين استفادوا من ذلك سيد عبد الله، والذي يقول: تحدث معنا مسئولون من جهاز تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، وأكدوا لنا أنهم يعملون على تمويل المشروعات والخدمات المالية وتنمية المجتمع، واشتركت في مشروع لتدريب الشباب والفتيات على الحرف اليدوية، وبالفعل حصلت على تمويل لمشروعي، وبعد أن كانت الهجرة حلما بالنسبة لي، أصبح حلمي هو مشروعي ونموه، فقد غرق بعض أقاربي أثناء الهجرة غير الشرعية، ولم يكن لديّ مانع في المحاولة ربما أستطيع الوصول إلى إيطاليا، ولكن بعد الاهتمام بنا أصبحت أمنع الشباب من تلك التجربة، فأعيش حاليا في قريتي "معزز مكرم"، فلماذا أفكر في الهروب.
وكانت وزيرة الهجرة السفيرة نبيلة مكرم، قد أكدت أنه تم التنسيق مع عدد من سفراء الدول العربية والأجنبية، للتعرف على احتياجات ومتطلبات سوق العمل في تلك الدول، حتى يتسنى إعداد وتأهيل الشباب وتصدير العمالة، لضمان حقوق هؤلاء والحفاظ على أرواحهم من خطر الهجرة غير الشرعية، بجانب تنفيذ برامج التوعية التي من شأنها رفع وعى الشباب بمخاطر الهجرة غير الشرعية، وما قد ينتج عنها من اتجار بالبشر، خاصة في القرى الأكثر فقرًا والأكثر احتياجًا، بالمحافظات التي تنتشر بها ظاهرة الهجرة غير الشرعية.
تأهيل الشباب
بالتعاون بين وزارة الدولة للهجرة وشئون المصريين بالخارج والوكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ)، وبتكليف من الوزارة الفيدرالية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ)، يستهدف المركز المصري الألماني للوظائف والإدماج، تقليل الهجرة غير الشرعية في مصر، من خلال تحديد أسبابها، وإتاحة فرص العمل للشباب المصري وتأهيلهم لسوق العمل.
وبفريق محترف وواسع المعرفة يهدف المركز إلى دعم التدريب والتطوير الذاتي للشباب المصري بجميع فئاته، وتقديم النصح والإرشاد بشأن العمل في مصر وألمانيا، وتوفير الفرص للعائدين من الخارج من خلال إعادة إدماجهم اقتصادياً واجتماعياً.
كما يهدف المركز كذلك كمصدر موثوق به للمعلومات، لبناء الثقة التي تساعد في الحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية، عن طريق توفير المعلومات الصحيحة لفرص الهجرة الشرعية، والتوعية بمخاطر الهجرة غير الشرعية، وتوفير البدائل الإيجابية، بجانب تقديم جلسات فردية للإرشاد الوظيفي، وفرص عمل داخل مصر، وبرامج تدريبية على مهارات التوظيف، فالهدف من كل ذلك هو تأكيد الدولة على أنها مع الهجرة الآمنة وليس الهجرة غير الشرعية، إذ يتم من خلال المركز طرح الفرص البديلة، ومن ثم مساعدة المتقدمين للوظائف عبر تقديم الاستشارات اللازمة لهم وتدريبهم.
قرية بلا بطالة
قرى وأرياف الصعيد بها كنوز من الشباب التي تبحث عن فرص عمل، ولكن تحتاج فقط لمن يمد لهم يد العون للحصول على فرصة عمل حقيقية، ولذلك أطلق مجمع عمال مصر مبادرة "قرية بدون بطالة"، والتي تستهدف توفير فرص عمل بالمناطق الصناعية لشباب محافظات الصعيد.
حيث يعمل مجمع عمال مصر على خدمة قرى الريف والصعيد، بناءً على المسئولية المجتمعية التي يجب أن يقوم بها أي كيان، وتضع المبادرة نصب أعيننا الشباب، الذين يبحثون عن فرص عمل، وقد لا تتاح لهم الفرصة في الحصول على وظيفة، نظرا لتخوفهم من السفر إلى المناطق الصناعية، التي يتوفر بها فرص عمل، فضلا عن معاناة البحث عن مكان إقامة عند الحصول على فرصة العمل، ولذلك توجه أعضاء المبادرة إلى القرى الأكثر احتياجًا لفرص العمل، بفرق متخصصة من قطاعات المجمع، مثل قطاع الموارد البشرية والتدريب والتشغيل، لكي تتمكن من تدريب الشباب وإعدادهم للعمل، وذلك من أجل القضاء على البطالة، وتشغيل الشباب في الأرياف والنجوع، والوصول إلى القرى الأكثر احتياجًا، ويتواجد فريق التوظيف بعمال مصر داخل قرى الصعيد لتوقيع العقود مع الشباب ومراجعة أوراق تعيينهم، وتوفير وسائل انتقال لشباب القرى الذين تم تعيينهم في مشروعات عمال مصر، إلى جانب طرح أفكار ورؤى جديدة للشباب داخل قرى الصعيد بالمشروعات الصغيرة التي تنجح داخل القرية.
مليون قائد من قرى مصر
ترسيخ روح الولاء والانتماء لدى شباب القرى، ومساعدتهم على تكوين شخصية قيادية، ونشر ثقافة ريادة الأعمال، هي الأهداف التي يسعى أحمد شعبان، ابن قرية" أمياي" بمركز طوخ بمحافظة القليوبية، والطالب بكلية الطب البيطري، وذلك من خلال تأسيسه لمبادرة مليون قائد من شباب قرى مصر..
ويقول أحمد شعبان: أسست المبادرة انطلاقا من خطة الدولة للتنمية المستدامة، ورؤية مصر ٢٠٣٠، واهتمام القيادة السياسية بالشباب عامة، وشباب القرى خاصة، ضمن مبادرة حياة كريمة، والتي تهدف إلى تطوير المجتمع الريفي، والنهوض بشباب القرى، بالتمكين الاقتصادي ورفع الوعي لديهم، فجاءت فكرة المبادرة، وكوني أحد شباب قرى مصر، ومهتم بقضايا بلدي واعتزازي ببلدي، أطلقت مبادرة "مليون قائد من شباب قرى مصر"، لتعمل على تشجيع الشباب على الانخراط في المجتمع المدني والأعمال التطوعية، والمشاركة في أنشطة الوزارات المختلفة، سواء وزارة الشباب والرياضة، أو وزارة التضامن الاجتماعي، أو وزارة التخطيط، وغيرها من الوزارات المنوطة بالشباب وقضاياهم، ويشارك في المبادرة عدد كبير من شباب محافظات مصر، وهم طلاب جامعات وخريجون شباب وفتيات، وهم نخبة من الشباب المتطوعين في وزارات مختلفة ومؤسسات مجتمعية وجمعيات متنوعة.
أما عن أهداف المبادرة فيقول شعبان: أهدافنا هي ترسيخ روح الولاء والانتماء لدى شباب القرى، من خلال العمل التطوعي، والمشاركة في دورات وتدريبات تقوم بها الوزارات المعنية بالشباب، ومساعدة شباب القرى على تكوين شخصية قيادية لديهم، تسعى لرفعة وطنهم، من خلال التعامل مع قيادات وشباب مختلفين معهم في الأفكار لخلق جيل يحترم رأي الآخر ويقدره، ونشر الوعي ومكافحة الشائعات وأنصاف الحقائق من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وتشجيع شباب القرى غير المهتم بالتطوع والمجتمع المدني، من خلال إظهار النماذج المشرفة وتقديم كل الدعم المعنوي لها، حتى تتشكل في الأذهان أهمية مشاركة الوطن في قضاياه والعمل على رفعته، بجانب أهداف أخرى منها: المساواة بين الجنسين، من خلال إسناد المهام في المبادرة لشباب وفتيات على حد سواء، ونشر ثقافة ريادة الأعمال لدى شباب القرى، والمساهمة في القضاء على البطالة والفقر والجوع، من خلال تأهيل الشباب لسوق العمل، ومساعدتهم في إيجاد فرص عمل لائقة، ونشر ثقافة التحول الرقمي، ونشر ثقافة الحفاظ على البيئة ومقدراتها، والمساهمة في نشر الوعي والتثقيف الصحي لدى أهالي القرى، والمساهمة في تمكين المرأة الريفية، والتوعية بأهمية أنظمة الري الحديثة، لمعالجة الشح المائي.
وقد حققت المبادرة عددا من الإنجازات، منها: المشاركة الفعالة مع اتحاد شباب الجمهورية الجديدة في الحملة الوطنية للتبرع بالبلازما، والمشاركة الفعالة مع وزارة الصحة والسكان في حملة مكافحة الإيدز برعاية الأمم المتحدة، والمشاركة في عدد من الصالونات الثقافية مع عدد من المؤسسات المجتمعية، والمشاركة الفعالة في ندوة التغير المناخي وتداعياته والطريق من الجلاسكو إلي شرم الشيخ في رحاب جامعة بنها ومركز إعداد القادة بجامعة بنها، وتبنّي تسليط الضوء على النماذج المشرفة من الشباب وتشجيع الشباب ليقتدوا بهم، والتعاون مع جمعيات ومبادرات أخرى لتدريب الشباب، وتدريب أكثر من ٥٠٠ شاب وفتاة، والمشاركة الفعالة في أنشطة وزارتي الشباب والرياضة والتضامن الاجتماعي، والمشاركة في اليوم العالمي للشباب.
تجربة أمياي
وبعيدا عن المبادرة التي أطلقها ابن أمياي، فتتميز قرية" أمياي" بشهرتها في تصنيع الجريد، وتحويله إلى بعض المنتجات، حيث يعمل العديد من شبابها في صناعة "الأقفاص" والكراسي من الجريد، وتعمل القرية في تلك الصناعة منذ أكثر من 100 عام..
ومن الشباب الذي يعمل في تلك المهنة أمين محمد، والذي يؤكد أن العديد من سكان القرية حوّلوا منازلهم إلى ورش أو مصانع صغيرة لتحويل جريد النخل إلى منتجات، منها: الأقفاص والكراسي الخوص، وكل شباب القرية يسعون للعمل، ويضيف قائلا: أعمل في هذه المهنة منذ صغري مع والدي، وهي مصدر رزقنا الوحيد، فنقوم بشراء الجريد من الصعيد وتنظيفه وتقطيعه، وهناك العديد من الفئات التي تعمل في تلك المهنة، حيث يعمل فيها موظفون ومدرسون، وذلك لتحسين دخلهم، بالرغم من أن العائد ليس كبيرا، ولكنها أفضل من البطالة، حتى الطلاب يعملون مع أهاليهم بعد العودة من المدرسة، فهي مصدر الدخل الأساسي للقرية.
كما يقول أحمد ثابت: هناك تجار يجلبون الجريد من الصعيد إلى القرية، ويبيعونه لأصحاب الورش، وبعد إعداده نقوم بتصنيعه، وأقوم بتصنيع كراسي الخوص، وبيعها في بعض المحلات بالقاهرة أو المدن الساحلية وخاصة الغردقة، وتبدأ عملية التصنيع بتقشير الخوص وإزالة الورق منه وتقطيعه، ثم تربيطه وتعتيقه في الشمس، ثم تأتي عملية التشكيل، وكلنا نرفع شعار لا للبطالة في القرية.
غيط العنب
منذ سنوات كانت منطقة "غيط العنب" بالإسكندرية عبارة عن منطقة عشوائية فقيرة يعيش أهلها في عشش، وتحتوي على أوكار للبلطجة، وقد تم تصنيفها كمنطقة غير آمنة، حسب تقرير لوزارة التنمية المحلية، ولكن أصرت الدولة على تغيير كل ذلك، وتحويل تلك المنطقة إلى منطقة آمنة يقطن سكانها مساكن آدمية، من خلال مشروعات "بشائر الخير"، ولكن لم يكن التطوير في الحجر فقط، فقد كان العمل بجد على تغيير ثقافة شبابها وتطويرهم، من خلال العديد من المبادرات ومراكز التدريب..
ومن تلك المراكز "مركز التدريب والتشغيل المهني Vtec"، وهي مؤسسة غير هادفة للربح، تقدم تدريبا مهنيا عالي الجودة، وتدعم التوظيف وتسهيل الشراكات التي تنمي المجتمع والشركات، ويقع مركز التدريب والتشغيل المهني في منطقة غيط العنب بالإسكندرية، وهو غير هادف للربح، ويعمل تحت رعاية جمعية رجال الأعمال بالإسكندرية.
ويقول محمد أنور- منسق العلاقات الخارجية بالمركز-: يوفر المركز للعمال والباحثين عن عمل تدريبا عالي الجودة في المهارات ذات الصلة بالصناعة، بجانب إعداد الشباب للحصول على فرص عمل لزيادة الدخل، ويساهم في نمو ريادة الأعمال، ويقوم بدور حلقة الوصل بين العمال والعملاء، ويملأ الفجوة بين احتياجات العمل والقوى العاملة الماهرة، ويساهم في النمو الاقتصادي، كما نقوم بتنظيم معارض توظيف ويكون الإقبال كبيرا عليها من الشباب الباحثين عن عمل.
ويتكون المركز من أربعة قطاعات داخلية، وهي: مركز التدريب، ومركز التوظيف، ومركز خدمات الصيانة المنزلية، ومركز ورش العمل الصناعية، ويقدم برامج التدريب على المهارات المتقدمة المصممة حسب الطلب، وبرامج تدريبية متخصصة تتراوح بين أسبوع إلى أسبوعين، بالتعاقد مع الشركات بهدف رفع مهارات العاملين، وبرامج التدريب المهني، والتي تتضمن ميكانيكا وكهرباء سيارات، واللحام، والسباكة، والنجارة، والتبريد والتكييف، وبرامج الملابس الجاهزة، بجانب تدريبات أخرى في الفندقة وفن الطهي ومهارات التوظيف وصيانة ماكينات الحياكة.