حالة من الارتياح والسكينة عمت نفوس المصريين بعد صدور قرار وزارة الأوقاف بفتح المساجد، والسماح بالعودة الكاملة بالمساجد إلى طبيعتها، وإلى ما قبل أزمة كورونا، وعودة الجو الروحى والإيمانى لها بعودة دروس العلم التى تعقد بعد صلاتى العصر والمغرب، وإلغاء التباعد، وعمارتها بالدروس والمقارئ القرآنية، والسماح بزيارة المقامات والأضرحة في غير أوقات الصلاة، في إطار اهتمامها بعمارة بيوت الله، ومبادرة الرئيس السيسي «مبنى ومعنى».
وكان وزير الأوقاف، محمد مختار جمعة، قد عقد مؤخرا مؤتمرا صحفيا، شرح فيه آليات عودة عمل المساجد إلى حالتها الطبيعية قبل الغلق، وعودة الدروس الدينية والمقارئ القرآنية، وتنظيم زيارة الأضرحة والمقامات، وأعرب خلال المؤتمر عن شكره وتقديره للرئيس عبد الفتاح السيسي على حرصه وتوجيهه بسرعة عودة المساجد لطبيعتها، وفتحها أمام الراكعين والساجدين.
فى السطور التالية تستعرض «الأهرام التعاوني» في هذا التقرير أهمية هذه الخطوة، وأبعادها الدينية والاجتماعية والنفسية، مع علمائنا..
قال الشيخ محمود عطية إمام وخطيب بوزارة الاوقاف: لا يخفى على كل ذى عقل لبيب ما للمساجد من أثر بالغ في تكوين الشخصية الفردية السوية والمجتمعية، ولا أدل على ذلك من كون أول عمل قام به النبى [ بعد الهجرة إلى المدينة المنورة كان بناء المسجد النبوى الأنور، وما أغلقت المساجد يوماً أبوابها في وجوه المصلين إلا فى وقت الجوائح كجائحة كورونا الحالية؛ حيث أن حياة الساجد مقدم على فتح المساجد.
ومع خفة حدة هذه الجائحة تدريجياً، وجهت القيادة السياسية بعودة الفتح مع مراعاة اتخاذ التدابير والإجراءات الاحترازية؛ حفاظاً على أرواح الناس، واليوم عادت المساجد لتعمل بكامل طاقتها وعادت الأنشطة إلى سابق عهدها بفضل الله أولاً، وفى ذلك دلالة على ان غلق المساجد لم يكن محاربة للدين كما أشاع أهل الشر، انما غلق المساجد كان عملاً بالقاعدة النبوية المحكمة (لا ضرر ولا ضرار)، ومعلوم أن من قواعد الفقه (الضرر يزال)، (إذا وجد ضرران معا، ولم يمكن تلافيهما جميعاً، فيرتكب أخف الضررين) وفى فتح المساجد أولاً مع مراعاة اتخاذ الإجراءات الاحترازية، دلالة على حرص الدولة بإعمال سنة التدرج، والأخذ كذلك بالجمع بين الحسنيين (أهمية صلاة الجماعة فى المسجد، المحافظة على حياة الناس).
وأشار إلى ان فى فتح المساجد بكامل طاقتها اليوم وعودة الدروس الدينية وبشكل مكثف؛ دلالة واضحة على إدراك الدولة المصرية لأهمية المساجد والإمام الأزهرى فى بناء الوعى، وإعادة صياغة الشخصية المصرية من جديد على أساس من الخلق الفاضل، والسلوك الإسلامى الرشيد، وأن الإمام الأزهرى بكلمته الوسطية يستطيع أن يهدم ما عمل العدو على بنائه فى سنوات، وتحقيقاً لذلك فقد وجه وزير الأوقاف بضرورة قيام الإمام بعمل دروس بشكل يومى بالتناوب بين صلاتى العصر والعشاء، على أن تكون هذه الدروس متصلة بأحوال الناس ومعاشهم، والله أسأله العون فى ذلك للجميع، كما وجه د. مختار جمعة بعمل ندوات ومحاضرات توعوية تثقيفية داخل المدارس والنوادي ومراكز الثقافة، ألا يدل كل ذلك على حرص الدولة المصرية على نشر الإسلام، وبناء شخصية الإنسان؟ المسجد هو محل تلقى الدعوة الأول، منه وفيه تخرج المسلم المثقف العالم الفقيه العالم بخواص المسائل، وفيه تخرج المسلم الملم بالمجمل من الدين الذى لا غنى عنه للمسلم.
وأوضح ان المسجد كان وما زال محل اجتماع الناس، يتدارسون فيه العلم، ويقيمون فيه حلق الذكر، ويتشاورون فيه فى شئون حياتهم، وللمسجد دوره البالغ فى تهدئة الناس عند حلول الأزمات لا سيما الأزمات الاقتصادية التى يترتب عليها جشع التجار وممارسة الاحتكار وغلاء الأسعار، وهذه أمور تغتم منها النفوس، وتضيق منها الصدور، وتطيش منها العقول ! فيأتى الناس إلى المساجد فيستمعون إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التى عنيت بهذا الشأن، والتى تدعو فى مجملها إلى التحلى بالصبر، وأن (مع العسر يسرا)، مع ضرورة الاقتصاد في المعاش، وأن (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان فى حاجة أخيه كان الله في حاجته)، وكذلك التحذير من الاحتكار وامتصاص دماء الناس وانتزاع ما فى جيوبهم، فمعلوم أن (المحتكر ملعون)، (ومن لا يرحم لا يرحم).
حينما يسمع الناس مثل هذه الآيات والأحاديث مع ذكر أحوال الناس في أوقات الأزمات لا ريب أنه يهون من وقع الأزمة فى النفوس، مما يجعل هناك حالة من الصبر عند الناس، وضرورة مراجعة أنفسهم فما (نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة) ولما كان القرآن الكريم ثقافا للألسن، ومصقلا للقلوب، وللمسلم كالناصح الذى لا يغش، والأمين الذى لا يخون، والرائد الذى لا يكذب، حرصت الدولة المصرية ممثلة في وزارة الأوقاف المصرية، على عودة المقارئ القرآنية للرجال والسيدات على حد سواء، وفتح الكتاتيب القرآنية لتعليم الناشئة كتاب الله العزيز، حفظاً وفهماً وتلاوة، ولعل فى عودة المدارس القرآنية، أبلغ رد على القائلين بمحاربة الدولة المصرية للدين، وأنها لا تبالى بالقرآن الكريم، وأنها تخشى على الناشئة من الدين الإسلامي فحاشا لمصر التى صدرت علم الإسلام للناس أن تحارب القرآن الكريم وأهله.
ورحب الدكتور إبراهيم محمد محيي الدين من علماء الازهر والأوقاف بقرار عودة المساجد لما كانت عليه قبل أزمة كورونا وتكثيف ما كان قائماً قبل الغلق من عودة دروس العلم وعودة مقارئ القرآن الكريم وزيارة الأضرحة والمقامات فى غير أوقات الصلاة وفتح مراكز الثقافة الإسلامية ومراكز التحفيظ، قائلا: لا شك أن هذا القرار لاقى قبولاً وارتياحا لدى الشعب المصرى الذى يتميز بفطرة التدين وحبه لآل البيت، لأن رسالة المسجد رسالة عظيمة فهى لا تقتصر على إقامة الشعائر الدينية فقط، وانما يعلم المصلى تحقيق التكافل الاجتماعى والتعاون على البر والتقوى خاصة فى ظل الظروف الاقتصادية من خلال تعليم أحكام الشريعة الإسلامية وإظهار فضل الزكاة والصدقات وأخلاق الإيثار والبذل والعطاء وتحفيظ النشء والشباب القرآن الكريم وتعليمهم الأخلاق الحميدة والقيم الإنسانية النبيلة وبث روح الاخاء والمساواة وفهم صحيح الدين ونبذ مظاهر التطرف والإرهاب والعنف، وهذه هي رسالة المسجد الحقيقية فى الإسلام.
ونصح بأنه يجب على المصلين تجاه هذا القرار الحكيم أن يحترموا قدسية المساجد، وان يراعوا حرماتها وان يلتزموا بآدابها لأنها بيوت الله فى الأرض قال تعالى في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)}، فرسالة المساجد رسالة سامية للصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن وحضور مجالس العلم وتعليم النظام والمساواة والاحترام المتبادل وعدم إشاعة الفوضى وعلو الأصوات والكلام والضجيج وغير ذلك من السلوكيات المرفوضة التى تتنافى مع قدسية المساجد
أما الدكتور سيف رجب قزامل استاذ الفقه المقارن والعميد السابق لكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر بطنطا، فأكد أن القرار الاخير الذى صدر من وزارة الأوقاف بفتح المساجد وعودتها إلى قبل الجائحة تفتح حسب المواعيد التى كانت تفتح قبل ذلك وزيارة الاطرحة والمقامات وإعادة الدروس الدينية بعد العصر وفى العشاء وعودة المقارئ القرآنية، إنما هو شى طيب أثلج الصدور وأذهب الحزن والغم الذى خيم على قلوب المصلين فجعلهم يذهبون إلى المسجد والاعتكاف فى همة ونشاط، والدولة مشكورة تعمل لمصلحة الجميع ومعلوم للجميع أن قرار الفتح قرار مدورس من الدولة، إذ قامت بتشكيل لجنة تحت مسمى الأزمات، هدفها المصلحة العامة والناس كانت تشعر بالضيق والتذمر من غلق المساجد، ونحن الآن سعدنا بهذا القرار رجالا ونساء وهو شعور فطرى وهم كانوا يتمنون أن تفتح المساجد كسابق عهدها، ولا شك العودة وفتح المساجد جعل المسجد يمارس دوره فى تحفيظ القران والتوعية وهناك شيوخ مدربون وهم جندوا أنفسهم لتوعية المصلين، والمسجد له دور كالمدرسة فى العلم والتنوير، والمساجد فى وجدان المصريين، ولابد على المصلين الاستماع الى كلمة إمام المسجد وبث روح التكافل الاجتماعى بين المصليين وحثهم على مساعدة بعضهم كما كان فى السابق.
ويشير الدكتور صالح احمد عبدالوهاب وكيل كلية العلوم الإسلامية الأزهرية للطلاب الوافدين، إلى أن جائحةُ « كورونا» القت بظلالِها في العامين الماضيين على الخِطابِ الدَّعوىِّ، وكما كان لها تداعياتُها الاقتصاديَّةُ والعلميَّةُ والفكريَّةُ والرياضيَّةُ والبيئيَّةُ على الفردِ والأُسرةِ والمجتمعِ- بلْ على العالَمِ بأثره- كانتْ لها –كذلك- تداعياتُها الدينيَّةُ خاصةً ما تعلَّقَ بعِمارةِ المساجدِ؛ فحلَّ التباعُدُ بين الصفوفِ محلَّ التقاربِ، وحلتْ خُطبُ التوعيةِ والإرشادِ محلَّ الموعظةِ، وحلّ الحظرُ محلَّ الإباحةِ، وحلتْ الدُّروسُ الإلكترونيةُ محلَّ المواجهةِ والمشافهةِ، وغير ذلك مِمَّا تطلَّبِ معه أخذَ الحيطةِ والحذرِ، وقد أحسنتْ المؤسساتُ الدينيَّةُ التعاملَ مع مقتضياتِ أحوالِ تلك الأزمةِ؛ وهذا أمرٌ جديرٌ بالتنويه والذكر والإشارة، فلا مزايدةَ في أمرِ الدينِ والاعتقادِ؛ ولِمَ لا...؟! وصحةُ الأبدانِ مُقدَّمةٌ على صحةِ الأديانِ، ولِمَ لا..؟! وحفظُ النَّفسِ من مقاصدِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ.
وقد لاحتْ في الأفقِ انفراجةٌ بعد استقبالِ المساجدِ للمصلينَ في عيدِ الفطرِ المُباركِ، وتخفيفِ الإجراءاتِ الاحترازيَّةِ، والسَّماحِ لدُورِ المُناسباتِ بمُمارسةِ نشاطِها وأداءِ الدّروسِ بالمساجدِ مِمَّا يُوجب علينا أنْ نُعيدَ تفكيرنا نحو « دور المساجد» وأنْ نكونَ على قدرِ المسئولية، فكما كان لأزمة «كورونا» تداعياتُها السلبيَّةُ، كانت لها –كذلك- ثمارُها الإيجابيَّةُ في أمرِ الدَّعوةِ، ومنها: ضرورةُ الوعيِّ بالدَّورِ القوميِّ للمساجدِ، فإعمارُ المساجدِ هو إعمارٌ للأرضِ والفردِ والأسرةِ بل والوطن بأثره؛ فما الدِّينُ إلَّا مُنظمٌ لعَلاقةِ الفردِ بربهِ ومجتمعِه فإذا عظُمَ الاهتمامُ بدورِ المسجدِ صلحَ الوطنُ وإذا تقلَّصَ هذا الدَّورُ ساء الوطن؛ فتربيةُ النَّشءِ على احترامِ القادةِ وأوليِ الأمرِ من الدّين، والدعاءُ لهم بالنُّصحِ والتوفيقِ من الدَّين، واستقرارُ الأوطانِ من الدِّينِ، والتثبتُ في نقلِ الأخبارِ من الدِّينِ، وعدمُ نشرِ الشائعاتِ من الدِّينِ، والمحافظةُ على المالِ العامِ من الدِّينِ، وإتقانُ العملِ من الدِّينِ، وبذلُ النَّفسِ والنَّفيسِ في سبيل الأرضِ وحفظِ العرضِ من الدِّينِ، ومدُّ يدِ العونِ للارتقاء بالوطن من الدِّينِ، والاعترافُ بما تمَّ إنجازُه من الدِّينِ، وترابطُ الأسرِ من الدِّينِ، وأداءُ كلٍ منَّا دورَه تجاه الآخرِ من الدِّينِ، واحترامُ عقائدِ الآخرين من الدين... وما غابتْ هذه المعاني إلا بغيابِ دورِ المسجدِ، وتقليصِ دورِه في تأديةِ الشعائرِ دون النَّظرِ إلى الهدف الأسمى لها.