يشاء السميع العليم أن أشهد -بنفسي- في مثل هذا الشهر من عام 1986 آلاف الفلبينيين، وهم يتسلقون أسوار قصر "مالاكانانج" الرئاسي في مانيلا، بعد فرار الرئيس وأسرته، وبعد 36 سنة، تعود الأسرة للقصر، ثانية، من بوابة الانتخابات.
الفلبين كانت وجهتي، ومهمتي، الصحفية- الآسيوية الأولى، في شهر مايو عام 1986، وقد تزامنت مع الثورة الشعبية في الفلبين، أملا في الخلاص من نظام فرديناند ماركوس، الفاسد المستبد، الذي حكم لمدة عقدين، وسعى لولاية رابعة.
وقتها، كنت أعمل محررًا اقتصاديًا في صحيفة الأنباء اليومية الكويتية، وحصلت على تذكرة مجانية للسفر بالطائرة إلى عاصمة كوريا الجنوبية، سول، لقضاء عطلة سياحية معتبرة، هناك، كعادة المقيمين والميسورين، في دول الخليج العربية. قبيل السفر، تمكنت -بالاتفاق مع إدارة تحرير الصحيفة وشركة الطيران- من تغيير مسار الرحلة، لتصبح: الكويت-مانيلا- الكويت، واستبدال العطلة السياحية السنوية بمهمة عمل، ممتدة لمدة شهر، لتغطية تداعيات الثورة ضد حكم ماركوس.
على مدار الشهر، شهدت حركة الجماهير الفلبينية الثائرة، ضد فساد واستبداد ماركوس وحاشيته، وحظيت بإجراء حديث صحفي مع الرئيسة كورازون أكينو، التي تولت الحكم بدعم من الجيش، في 25 فبراير 1986، وحتى 30 يونيو 1992.
خلال الترتيب لإجراء الحديث الصحفي مع الرئيسة أكينو، أبلغني وزير الإعلام الفلبيني بأنني محظوظ، لأن قصر "مالاكانانج" الرئاسي سيجري فتحه بعد قليل، أمام المراسلين الأجانب والجمهور، لكي يروا بأعينهم حجم بذخ أسرة ماركوس.
هكذا، شاء القدر أن أصبح واحدًا من أوائل المراسلين الأجانب، الذين وقع عليهم الاختيار، لإجراء حديث صحفي مع الرئيسة الجديدة، ودخول قصر "مالاكانانج"، في اليوم الأول من تحويله إلى متحف، وفتح أبوابه أمام المراسلين والجمهور.
وقتها، نشرت لي الصحيفة الكويتية عددًا من الرسائل الصحفية، تضمنت الحديث مع الرئيسة أكينو، ومشاهداتي بأروقة القصر، والمقتنيات والتحف والمجوهرات والملابس الخاصة بالرئيس ماركوس وأسرته، وقرينته إيميلدا، على وجه التحديد.
ذكريات كثيرة عن مشاهداتي الميدانية لثورة الشعب في الفلبين، احتفظت بها في مخيلتي على مدار الـ 36 عامًا الماضية، إلى أن فوجئت بخبر منشور في "بوابة الأهرام"، مفاده أن "بونج بونج"، نجل الرئيس الأسبق فرديناند ماركوس، حقق فوزًا كاسحًا في انتخابات الرئاسة الأخيرة، ليمهد لعودة عائلة ماركوس إلى السلطة، بعد 36 عامًا من خروجها المهين إلى المنفى.
أحد الدروس -التي تعلمتها بقسم الصحافة في إعلام القاهرة منذ نحو نصف قرن كان ينبهنا -باستمرار- إلى أن "ذاكرة القارئ ضعيفة"، ويجب أن يشتمل كل خبر على خلفية لتنشيط الذهن، فهل ذاكرة الشعوب هي -أيضًا- ضعيفة، إلى هذا الحد؟!
سبب السؤال يتلخص في أنني، كشاهد عيان للثورة الشعبية في الفلبين، كدت أن أكون متأكدًا، وقتها، بأن فرار ماركوس وأسرته إلى المنفى، من نفق أسفل قصر "مالاكانانج"، الرئاسي، سوف يصبح بلا رجعة، فلماذا تغيرت الظروف والأحوال؟
الشعب الفلبيني، الذي رأيته بعيني، وقتها، في العاصمة مانيلا وفي عدد من المدن الأخرى، كان يرزح في أتون درجة عالية من الفقر، ويعيش أشد معاني إرهاب السلطة والأحكام العرفية، فضلًا عن سمعة النظام السيئة بتزوير نتائج الانتخابات.
خلاصة وثائق لجنة الحكم الرشيد لحصر ثروة ماركوس، التي أنشأتها حكومة الرئيسة أكينو، بعد فراره، أشارت إلى أن أسرته نهبت نحو 10 مليارات دولار أمريكي داخل الفلبين، و600 مليون دولار في بنوك سويسرا، فضلًا عن الصعوبات المالية والاقتصادية للدولة، وتراكم الديون الخارجية، والحياة الباذخة للسلطة.
رأيت بعيني إحدى مظاهر الحياة الباذخة لماركوس وأسرته، في أثناء تفقدي لقصر "مالاكانانج"، منذ 36 عامًا، والمسألة لا تتوقف عند حد القصة الأشهر، وهي الـ 2700 زوج من الأحذية الخاصة بقرينته، إيميلدا، الملقبة بالفراشة الحديدية.
عارضة الأزياء وملكة جمال الفلبين السابقة، إيميلدا ماركوس، كانت تسعد بوصف وضعها، وعلاقتها بزوجها، بأنها "سيدة كينيدي الأولى الأسيوية"، تشبهًا بالعلاقة التي كانت تجمع الرئيس الأمريكي الأسبق، وقرينته جاكلين، في حقبة الستينيات.
إيميلدا كانت تشتري مجوهراتها من منهاتن، وتمتلك عقارات بالغة الفخامة في أمريكا والفلبين، وتقتني أدوات مائدة فضية في بيتها، ولوحات لـ فان جوخ وسيزمان وريمبرانديت ورافييل ومايكل أنجلو، وألف حقيبة يد و500 فستان.
لأسباب داخلية عديدة، وبعد مرور سنوات في المنفى، عادت أسرة ماركوس إلى الفلبين، ونفت العائلة سرقة مليارات الدولارات من ثروات الدولة، خلال وجودها على رأس ما يعتبره المراقبون أحد أشهر الأنظمة الفاسدة والمستبدة في العالم.
وظفت أسرة ماركوس حملة على وسائل التواصل الاجتماعي لإعادة تسمية حقبة حكمها القديمة - ليس باعتبارها فترة أحكام عرفية تتسم بانتهاكات فادحة لحقوق الإنسان وبالفساد وبالانهيار الاقتصادي - ولكن كعصر ذهبي من الازدهار الآمن.
بدأ هذا قبل عقد من الزمن، عندما بثت مئات مقاطع الفيديو التي أعيد تحريرها فنيًا بشكل مخادع على يوتيوب، ثم أعيد نشرها بعد ذلك على صفحات فيسبوك.
أقنعت هذه الفيديوهات ملايين الفلبينيين أن تشويه سمعة آل ماركوس بعد سقوطهم كان غير عادل، وأن قصص الجشع التي لا مثيل لها كانت غير صحيحة.
شغل ماركوس الابن، الشهير بلقب بونج بونج، منصب حاكم إقليم وعضوية الكونجرس ومجلس الشيوخ، وشغلت والدته إيميلدا، عضوية مجلس النواب لأربع فترات، كما ترشحت للانتخابات الرئاسية عامي 1992 و1998، ولم تنجح.
حسب تقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية، بي بي سي، استفادت أسرة ماركوس من تحالفها مع عائلة الرئيس الفلبيني الحالي رودريجو دوتيرتي.
روجت الأسرة لأسطورة تفيد بأن عائلة ماركوس تمتلك بالفعل ثروة هائلة في حسابات خارجية أو مخابئ من سبائك الذهب، ولكنها تحتفظ بها لصالح الشعب بمجرد عودتها إلى السلطة.
استفادت الحملة الموالية لماركوس من خيبة أمل عامة بسبب إخفاق إدارات ما بعد ماركوس في إدخال تحسينات كبيرة على حياة الفلبينيين، كما استفاد الرئيس المنتخب -إلى حد كبير- من ذكريات أعيد تشكيلها عن حكم الرجل القوي لوالده.
[email protected]