أمواج التاريخ تتلاطم، وحركة الجغرافيا تتصادم، وبين التلاطم والتصادم تتجلى قوة الأمم، ومصر واحدة من الأمم المستمرة، تهبط وتعلو، لكنها لا تغيب، ثرية الأبعاد، رأسيا وأفقيا، رأسيا حيث موجات التاريخ المتلاحقة، وأفقيا حيث الأبعاد المتعددة.
كان جمال حمدان صاغ نظرية مصرية فى كتيب صغير الحجم، عميق الأثر، عنوانه "نحن.. وأبعادنا الأربعة"، وحددها بالبعد الآسيوي، حيث التاريخ، والبعد الإفريقى حيث الجغرافيا، والبعد النيلي، حيث استمرار الحياة، والبعد المتوسطي، حيث الثقافة والحضارة، واللغة والعقائد، ثم تفاعل هذه الأبعاد معا لتشكل جوهر مصر والمصريين.
وبرغم تأكيده على وجود نظائر لأمم أخرى تمتلك مثل هذه الأبعاد، فإنه يقول: "مصر تظل فى النهاية وأساسا هى مصر، وتظل بوصلتها هى المصرية"، لكنه كان يؤمن ويعتقد ويتيقن بأن الفرعونية، مع تحفظى شخصيا على هذا المصطلح، وأفضل المصرية القديمة بدلا منه، بأنه بمثابة الجد للمصريين، بينما العروبة بمثابة الأب لهم.
يصف جمال حمدان مصر دائما، بأنها ذات "التاريخ العريق، والأصالة الذاتية، والحضارة الانبثاقية"، وبذلك تختلف عن "دول بلا جذور جغرافية، وكأنها الغراب الذى يقلد مشية الطاووس"، ولأن جمال حمدان ذو رؤية ثاقبة، يرى أن مصر أم الدنيا من حيث الأمة الوسط، والأمة التى لعبت دورا فى كل العصور فى الأبعاد المجاورة.
صحيح يراها آسيوية بالتاريخ، وإفريقية بالجغرافيا، ونيلية بالحياة، ومتوسطية أوروبية بالثقافة والحضارة، ولكنه يراها مثالا منفردا ووحيدا، وجديرة بأن تكون قلب العالم القديم والحديث.
كانت تيارات العقائد والثقافات تهب من آسيا، وتشكل عمق الرؤية المصرية على مدى حقب طويلة، وتتمازج مع مصر بالسلالات، بخاصة فى الشام الجنوبية (فلسطين)، ثم الشام الكبير، وطريق البحر المتوسط، بينما كانت قاعدة الحياة تأتى من إفريقيا النيلية، وتتجه شمالا حيث المتوسط المربوط بمصر.
ولا ينسى جمال حمدان المحطات المهمة الآتية من الشمال الإفريقي، بكبار المتصوفة الذين حطوا الرحال على شاطئ المتوسط من الغرب إلى الشرق، دون أن ينسى أن يعرج على الماضى المتلاحم مع الشمال الإفريقي، ودور برقة الليبية، وعلاقتها العميقة بمصر، ثم علاقة الفاطميين، ورحلة السيرة الهلالية، بينما يتوقف عند الشام كبوتقة ثقافية وحضارية، تجلت وبرزت فى مصر على مدى أزمنة طويلة، ثم تصاعدت منذ الفتح العربى لمصر.
كان دافع جمال حمدان لتأليف هذا الكتاب الخطير هو تجاذب التيارات السياسية والفكرية المصرية فى بداية السبعينيات، وقد وصف هذا التجاذب بالدوار الجغرافي، محذرا من الإصابة بهذا الدوار، وقال بوضوح وصرامة وحسم: مفتاح الموقف كله فى كلمة واحدة، هو الانتماء، "ضد" الأبعاد: الانتماء القومى ضد الأبعاد الإقليمية، أجل، فمقياس الأشياء جميعا بين أبعادنا الأربعة، انتماؤنا القومي، أى الجسم والكيان نفسه، مقابل وقبل وبعد أبعاده وامتداداته، وذلك ما يعنى ويرادف العروبة على الفور".
كان ذا نظرة فاحصة، فقد قرأ بعناية آراء وأفكاراً تتصاعد وتتصادم، فى بداية السبعينيات، آراء يتبنى أصحابها وجهات نظر، تجعل من الأبعاد والدوائر المحيطة، أصلا يعلو على الجوهر أو الجسم نفسه، فبعضهم يذهب بعيدا ويأخذنا إلى الجنوب، أو إلى تاريخ سحيق أبعد، وبعضها يأخذنا إلى أوروبا بالكامل، ويتخلى عن روابط النيل، أو الرابط الآسيوى الحضارى والثقافي، وبعضهم يجعلنا خارج هذه الأبعاد.
لكن جمال حمدان، المفكر الإستراتيجى عن حق، حدد هذا الداء وأسماه الدوار الجغرافي، محذرا من خطر الإصابة بهذا الدوار، مؤكدا أنه لا ينبغى لمصر أن تصاب به، فهى مع الدورات التاريخية المتلاحقة، لم تقع فى هذه الإصابة،" ببساطة لأنها مركز الدائرة وقطب الرحى"، وحسب تعبيره الدقيق:" فإن مصر وحدها هى الجيروسكوب الراسخ والبوصلة القائدة" والجيروسكوب هو الذى يحدد مكان السفينة فى أى زمان وأى مكان.
ما أحوجنا لقراءة كتاب "نحن... وأبعادنا الأربعة" هذه الأيام، لحظة تصادم قوى واختفاء أخرى.