«داعش» تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، كانت أوج صولاته وجولاته في عام 2017، روج الإرهاب وروع العالم بأذاه، ولم تنجُ مصر من عملياته الإرهابية وتألمنا لسقوط خيرة شبابنا من رجال القوات المسلحة والشرطة كشهداء عند رب العالمين.
وتلقينا شهر فبراير الماضي إعلانًا من الإدارة الأمريكية عن مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية "عبدالله قرداش"، وعُد مقتله حدثًا مهمًا وإنجازًا كبيرًا من الناحية الأمنية وانتكاسة جديدة وكبيرة للتنظيم، وسط تحليلات خبراء بأن هذا الحدث سيحد من تحركات التنظيم في كل من العراق وسوريا.
ويأتي السؤال هل انتهى التنظيم بمقتل الزعيم، أو أن آثار الاغتيال السلبية لن تدوم طويلًا؟
وللرد على السؤال لابد أن نجمع على اعتياد تنظيم "داعش" التكيف بسرعة استثنائية مع الصدمات والمتفككات التنظيمية التي ألمت به بعد مقتل خلفاء وقيادات كبيرة له؛ لذا من الضرورة فهم العوامل التي يستند إليها هذا التنظيم والتي تبقيه متماسكًا كلما انحدر نحو الهاوية وخسر أحد معاركه الكبيرة أو سقط أحد قيادات الصف الأول لديه.
إن تنظيم «داعش» هو منتج معقد تطور بسرعة فائقة وفرض نفسه بقوة في ظروف استثنائية، وهو يمثل طفرة حقيقية مقارنة بالجماعات الجهادية الإرهابية الأخرى؛ كونه يستند إلى محركات أساسية تطبيقية لا يحيد عنها كلما ضعفت قوته.
بعد القضاء على خلافة تنظيم «داعش» واسترداد الأراضي التي كان يسيطر عليها في عام 2019 راهن الكثيرون على أن هذا التنظيم ماض نحو الزوال أو الانطواء والانكماش الحقيقي؛ كالذي أصاب تنظيم القاعدة؛ وجاءت هذه المراهنة نتيجة إجراء مقارنة أيديولوجية بين هذين التنظيمين وتحديد التشابهات بينهما، صحيح أن منبع الأيديولوجية الدينية تتشابه بين التنظيمات الإرهابية الإسلاموية الراديكالية بصورة عامة، وبين «داعش» والقاعدة بصورة خاصة، إلا أن صيغة الأيديولوجية نفسها ونظرية العمل المشتقة منها تختلف اختلافًا كبيرًا بين تنظيمي القاعدة و«داعش»، بل يمكن القول إن نظرية العمل عند «داعش» وإن استندت إلى مخرجات الفكر الديني السلفي المتشدد إلا أنها مثلت وما زالت تمثل طفرة حقيقية وفريدة من نوعها أوصلت التنظيم إلى سدة الخلافة، وحولته من مجاميع مسلحة إلى جيش كبير في مدة زمنية قياسية، إضافة إلى ذلك، يتبع التنظيم بشكل صارم إستراتيجية طويلة الأمد مرسومة على شكل خطط مدروسة يقوم بمراجعتها وتطويرها بشكل مستمر؛ بحيث تتواكب مع الأوضاع المحلية والإقليمية المتغيرة وتساهم في حماية التنظيم من الاندثار، فمثلًا تطبيق مبدأ اللامركزية في العمليات الميدانية يعطي للقيادات العسكرية حرية كبيرة في تنفيذ عمليات إرهابية تراها مناسبًا طبقًا للظروف المحيطة بها، بل إن اللامركزية توسعت وبشكل كبير نحو إطلاق يد القادة الميدانيين لتأمين قسط كبير من التمويلات المالية وتعزيز عمليات التجنيد الأفقية في المجتمعات التي يعيشون فيها.
تُؤمن هذه الإستراتيجية للتنظيم التكيف المثالي مع الظروف الميدانية المحيطة وتمنع التفكك وتدعم عمليات التجنيد، إضافة الى ذلك تعتبر تكتيكات “السكون والتلاشي” التي يتبعها التنظيم خاصة عندما يتعرض لضغوطات أمنية أو عند قيام القطعات العسكرية الحكومية بتنفيذ حملات أمنية واسعة ضده بين الحين والآخر، أحد الإستراتيجيات المهمة التي ساهمت في الإبقاء على التنظيم بعيدًا عن الأنظار.
أما فيما يخص المحرك الأيديولوجي للتنظيم فإنه يستند إلى فقه جهادي خاص وهو فقه هجين مستحدث، وغير مقنن كتلك المعمول بها لدى تنظيم القاعدة، فـ«داعش» يعتمد وبشكل كبير على كتاب من فقه الجهاد لشخص يدعى (أبوعبد الله المهاجر) وهو فقه يبيح قتل كل شخص وفي أي وقت ولأي سبب بغية الوصول إلى الخلافة المنشودة.
ولعل العامل المهم لاستدامة «داعش» هو محركها الإعلامي والاجتماعي؛ حيث يركز التنظيم دائمًا في نداءاته السياسية وبياناته الإعلامية على مظلومية السنة ومدى التهميش الذي يمارس ضدهم في كل من العراق وسوريا وهو مادفع أسلاف التنظيم في العراق للاعتماد على “التجنيد الحذر” أو الاستقطاب النخبوي” خوفًا من التفكك أو الاختراق، إلا أنه وبعد تولي” أبوبكر البغدادي” قيادة التنظيم عام 2010، ركز التنظيم على توسيع نطاق عمليات التجنيد معتمدًا على “التجنيد المتعدد” أو “التجنيد الجماهيري”؛ والذي أدى الى حدوث طفرة عددية في حجم مقاتليه الذي وصل عددهم إلى 300 ألف مقاتل في العراق و50 ألف مقاتل في سوريا بحلول عام 2014. وعلى الرغم من تقلص الإنتاج الإعلامي (نوعًا وكمًا) ومحدودية انتشاره مقارنة بالسابق إلا أن الخطاب الإعلامي للتنظيم لا يزال يحظى بمقبولية لدى آلاف المسلمين.
ساعد المحرك الإعلامي كثيرًا في تطوير وفي تشكيل حواضن شعبية مؤيدة للتنظيم، وهذه الحواضن تطورت واتخذت أشكالًا مباشرة (مؤيدة) أو غير مباشرة (محتملة)، الحواضن المباشرة تنتشر في بعض المناطق السنية العراقية والسورية التي تعاني من التهميش والإقصاء، أما الحواضن المحتملة غير المباشرة، فهي عادة حواضن محايدة لا تعلن ولاءها للتنظيم، ولا تعارضها في الوقت نفسه.
وتتواجد كلا الحاضنتين في مناطق إما يسيطر عليها التنظيم أو يتحرك فيها بقدر كبير من الحرية، وهي تمثل أرضًا خصبة آنية أو مستقبلية لاستقطاب عناصر جدد ومجالًا فسيحًا لكي يطبق التنظيم إستراتيجيته فيها.
سلّط تنظيم «داعش» الضوء منذ نشأته على قدرته على نشر الدعاية القاتلة الخاصة به، ويعي التحالف الدولي أهمية مكافحة الوجود الافتراضي للتنظيم الإرهابي، لذا عمل جاهدًا على رصد المحتويات الجهادية المتوافرة على الإنترنت وتفكيكها وإزالتها.
وينشط الغرب وخاصة فرنسا كثيرًا في مجال مكافحة استخدام الإنترنت لأغراض إرهابية، وتقيم حوارًا على المستوى الوطني مع منشآت الإنترنت لتناول هذه المسألة، بغية النهوض برصد المحتويات الإرهابية المتوافرة على الشبكة وإزالتها نهائيًا وعلى وجه السرعة.
الخلاصة هنا هي أن «داعش» ما زال يشكل تهديدًا كبيرًا وجديًا على أمن العالم واستقراره، وخطره لا يزال حاضرًا، وخطورته لا تزال قائمة، والتسليم بأن «داعش» انتهى، واتخاذ قرارات بناء على هذا الافتراض الخاطئ، هما أكبر هدية يمكن تقديمها لهذا التنظيم الإرهابي، فهذا منتهى مراده وأكثر ما يصبو إليه؛ تخفيفًا لما عليه من ضغوط، وتحيُّنًا لفرصة يلتقط فيها أنفاسه ويستوعب فيها خسائره ويعيد تنظيم صفوفه في مناطق وجوده التقليدية، ويرسخ فيها وجوده في بؤر انتشاره الجديدة.
لذا فإن هناك مسئولية كبيرة لا تزال قائمة على التحالف الدولي لمحاربة «داعش»، واستمرار هذا التحالف لا يجب أن يكون محل نقاش، ومهمته لا يجب أن يطالها أي تغيير؛ فـ«داعش» فكرة وعقيدة سوداء لا يبهت لونها؛ ولا تختص بمكان بل تنتشر بيننا، فالتطرف هو «داعش»؛ فمن يُكفِر المجتمع ومن يصفع من لا ترتدي غطاء رأس في رمضان، ومن تسب من تكشف شعرها في المترو؛ ما هم إلا بذور الفكر الداعشي المتطرف، ولا يختلف الأمر مع مروجي تعليقات السوشيال ميديا يوميًا ممن يكبرون لموت شخصية عامة رميت بالعلمانية! أو يشمتون لوفاة روح إنسانية أو ينصبون أنفسهم أصحاب صكوك دخول الجنة والنار.
«داعش» لم تنتهِ ولن تنتهي؛ هي فقط في حالة سكون وكمون وليس حالة زوالٍ وتلاشٍ.