الغلط فين؟ سؤال تربينا وكبرنا وقد اعتادت عليه آذاننا وتربت عليه عقولنا من خلال البرنامج الإذاعي الشهير "الغلط فين؟" الذي عهدناه يتنقل في كل مكان يكتشف المواهب ويختبر المعلومات على يد الرائع القدير الراحل الأستاذ على فايق زغلول، الذي تعلمنا أنه لابد ونحن نتذكره هو وأمثاله أن يسبق اسمه لقب "الأستاذ".. هكذا تعلمنا.
لم نعد نتابع البرنامج ولا نعلم إن كان لا يزال مستمرًا أم لا، لكنه حفر في العقول والقلوب سؤالًا مشروعًا "الغلط فين؟" فبقي ملازمًا لأجيال كثيرة، يطفو على سطح الذاكرة كلما رأوا أشياء لا تتفق مع العقل ولا القلب ولا العرف ولا الدين ولا أي شيء!
أقر وأعترف بالاختلاف بين الأجيال في الفكر والتوجهات، وقبل ذلك الأسلوب، وأتفق تمامًا مع ضرورة وجود هذا الاختلاف، فلكل جيل سماته المميزة وطموحاته الخاصة، وله كل الحق في سبيل تحقيقها أن يبتكر أساليب جديدة، بل وأن يستحدث ألفاظًا تمثل لغته الخاصة، كل ذلك رائع؛ لكن لابد وأن نقر ونعترف ولا نجادل في وجود أصول لا يمكن أن تتغير.
احترام الصغير للكبير مثلًا، هل يمكن أن يأتي يوم ونقول إنه أصبح موضة قديمة؟ هل يجوز في أي زمان أو مكان أن يصبح عقوق الأبناء للآباء من علامات التقدم والتحضر؟ هل يمكن أن تصبح الصلاة والعبادة تخلفًا ورجعية؟ هل يمكن أن يصبح الشذوذ الجنسي هو القاعدة المستقرة بين أفراد المجتمع؟
ولأنني ممن تربوا على مشروعية سؤال "الغلط فين؟"، أجد نفسي غصبًا عني أنتبه إلى تصرفات تربينا على أنها "غلط" و"عيب" و"ما يصحش"؛ رغم ذلك ولأنني على يقين بضرورة الاختلاف بين الأجيال، ولأنني أب سوف يواجه ذلك مع أبنائه، فقد اعتدت مراعاة ذلك الفارق الزمني قبل الحكم على أي تصرف مستحدث.
لذلك وحتى أتجنب السقوط في تلك الفجوة الفكرية فتضيع لغة الحوار والتفاهم بيني وبينهم، لا أقول هذا الأمر "غلط" إلا بعد مناقشته ومراجعته مع نفسي، ومع آخرين إذا تطلب الأمر، آخذًا في الاعتبار الاختلاف والتغير والتطور باعتبارها أمورًا لازمة لاستمرار الحياة.
من الأشياء التي لاحظتها ولم أستطع أن تمر أمامي مرور الكرام أسلوب التعامل مع المعلمين حاليًا، طبعًا لا يوجد حضور بالمدارس في ظل انشغال الأبناء طيلة اليوم في الدروس الخصوصية للحصول على أعلى الدرجات، وأدى ذلك إلى فقدان الرابط اليومي التربوي الذي تربينا عليه بين المعلم وتلاميذه، انتهى زمن الأستاذ الذي كان يربي قبل أن يُعلم.
وجاء زمن المدرس الخصوصي الذي لا تهمه التربية ولا يشغله سوى تحقيق أماني الأهالي بحصول الأبناء على أعلى الدرجات، وعلى فكرة هو يفعل ما يريدونه تمامًا وبمنتهى الإتقان، وهم يطلبون ما فرضه عليهم مكتب التنسيق وسوق العمل ومتغيراته.
والأبناء يدركون أصول اللعبة، هم على يقين أنهم يشترون جهود المعلم الخصوصي "بفلوسهم"، وإذا كان الأمر كذلك، إذن يحق لي الاعتراض على جودة السلعة التي أشتريها بفلوسي، وعلى أسلوب تقديمها وعلى أي شيء قد لا يتماشى مع راحتي في قاعة الدرس التي ارتادها ...إلخ.
إلى هنا لا توجد مشكلة، تعبير الطلاب عما يجول بخاطرهم وما يضايقهم يعتبر ظاهرة صحية، لكن أن يتحدث الطالب مع أستاذه بأسلوب "جرى إيه يا مستر، إنت بتكلمني كده ليه؟ أنا ما مفيش حد يكلمني كده"، أو "أنا بادفع فلوس وعايز حقي".. وغيرها من الأقوال لا يمكن ذكرها لبذاءتها الشديدة.. أو هكذا يراها أبناء جيلي.
من علمني حرفًا صرت له عبدًا، هل باتت موضة قديمة؟ وهل ذلك يقودنا للأمام أم يرجع بنا آلاف الأميال إلى الوراء؟ الجيل الجديد يقول: لماذا أصبح له عبدًا؟ هو يتقاضى المال نظير تعليمي! أنا أتعلم بفلوسي، وجيلنا يقول: هو علمنى حرفًا وحرفًا فصارت كلمات وعبارات ثم معرفة بكل شيء من حولي، علمني التجارة والقانون والطب والهندسة والآداب.. إلخ، فأصبحت مصدر رزقي، وسبب تميزي، وقبل ذلك علمني آداب الحياة.
كان مربيًا قبل أن يكون معلمًا، كان يعلم ذلك ويؤديه بحب، كان يدرك دوره ومشاركته للأسرة في التربية؛ لذلك أقف له إجلالًا واحترامًا إذا رأيته، ولا أتردد لحظة واحدة في أن أقر وأعترف أنه في وقت ما قد علمني حرفًا فصرت له عبدًا حبًا وتقديرًا واعترافًا بفضله.
أين نحن الآن يا سادة؟! وإلى أين المصير؟!