راديو الاهرام

استعادة جمال حمدان (1)

9-5-2022 | 12:11
الأهرام العربي نقلاً عن

فى شهر أبريل من كل عام، نستعيد محطة جمال حمدان، المفكر الإستراتيجى الحقيقي، نستعيده فى ذكرى وفاته الغامضة.

 توفى قبل 31 عامًا، فى السابع عشر من أبريل عام 1993، كان يستعد لإصدار ثلاثة كتب، أو ثلاثة أسفار عظمى، لم تجد طريقها إلى النور، لتستكمل دائرته المحكمة فى كتابه العمدة: “شخصية مصر ــ دراسة فى عبقرية المكان”.

كان جمال حمدان بحق آتيا من المستقبل، لا يشبه هؤلاء الذين ينتحلون صفة باحثين إستراتيجيين، فهو اسم على مسمى، حتى اسم قريته «ناى» من أعمال القليوبية تكشف أنه كان يعزف التاريخ والجغرافيا على آلة مصرية أصيلة، أو بالأحرى على آلة عربية أصيلة، رغم دراسته فى إنجلترا، فإنه احتفظ بالنهر والصحراء فى جسد واحد، ليقدم للأجيال على مرمى التاريخ عزفه النادر والمنفرد.

لو قرأنا بإمعان شخصية مصر فى هذه الأيام تحديدا، فسوف ندرك أن الرجل كان ذا بصيرة نادرة، أليس هو الذى تنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتى عام 1968 فى عز سطوته الدولية، وبالفعل حدث الانهيار بعد ذلك عام 1991، أى إنه قرأ سرد التاريخ، وحركة الجغرافيا، ثم أدرك بتلك البصيرة أن هذه الكتلة قابلة للتفكك والذوبان، ثم تنبأ فى نفس الوقت باشتعال الصراع بين ضفتى الأطلسي، أى بين أوروبا والولايات المتحدة رغم الطريق الواحد الظاهر للعيان.

يبدو الصراع مكتومًا فى معالجة الحرب الروسية الأوكرانية، فثمة اختلاف عميق، يتجلى على السطح فى تصريح سياسى هنا أو هناك، يعارض ما يبدو من تناسق فى المواقف، فبعض دول أوروبا ترى أنها المعنية مباشرة بالصراع على أراضى القارة العجوز.

 فبرغم الموقف الأمريكى الصارم من روسيا، فإن أوروبا غير قادرة على الاستغناء عن الغاز الروسي، ولا عن طريق التجارة مع الصين وشرق آسيا، ولم تكن رحلة بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا، إلى الهند أخيرًا إلا جزءًا من محاولة لاستمرار الشرايين مفتوحة بين آسيا وأوروبا، والدليل الآخر هو استمرار الاتصالات بين فرنسا وألمانيا من جانب، وبين روسيا من جانب آخر، رغم القطيعة الظاهرة فى وسائل الإعلام.

كان جمال حمدان يقرأ من آفاق مفتوحة، وكان أول من تكلم عن اختراع فكرة صدام الحضارات قبل المفكر الأمريكى صامويل هانتنجتون، ثم تكلم عن سعار القوة، والانتصارات المتتالية لهذا السعار، ثم مقتل هذه القوة فى لحظة النشوة، وقد تنبأ بأن أمريكا ستكون عملاقا سياسيا وقزما اقتصاديا، ونحن نرى كيف تقاربت الصين معها اقتصاديا خلال السنوات الماضية، ثم اكتشفناها فى أزمة الحرب الأوكرانية الروسية، وكيف أصبحت تعانى من تضخم اقتصادى أخطر من أزمة التضخم العالمى فى الثلاثينيات من القرن الماضي، ومن الأزمة الاقتصادية فى بداية القرن الحالي.

بصيرة جمال حمدان لا تتوقف عن الاستشراف، فقد تنبأ بالتآكل الذاتى للمنتصرين الغربيين، فاستمرار الغزو والحروب سوف يواجه غضبًا عالميًا متراكمًا، وهو الغضب الذى سيؤدى فى النهاية إلى تفكيك هذه القوى، وصعود أخرى.

 على الجانب العربي، يرى جمال حمدان أن التاريخ والجغرافيا سيحكمان بالوحدة بين شتات هذه الكتلة الهائلة، وأن الضعف البادي عليها، نتيجة الغزو والحرب واستمرار التدفق الخارجى، سوف يتكسر على صخرة هذه الوحدة الحتمية، على أن تكون مصر قلب هذه الكتلة، فهو يقول بوضوح: «ببساطة .. إن مصر، أقدم وأعرق دولة فى الجغرافيا السياسية للعالم، غير قابلة للقسمة على اثنين أو أكثر، مهما كانت قوة الضغط والحرارة. مصر هى «قدس أقداس» السياسة العالمية والجغرافيا السياسية»، ثم يؤكد: «فى كلمة واحدة .. شخصية مصر هى التفرد»، ويرى فى النهاية .. «أن مصر بالذات محكوم عليها بالعروبة».

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: