تنتشر على ألسنة العامة جملة في غاية العبقرية، أو قل إن شئت مثل شعبي: "إللي يحتاجه البيت يحرم على الجامع".. ويعيد الناس صياغته بطريقة أخرى تحت عنوان "فلوس الجامع الفقير أولى بها".
في محيط دائرتي –حتى أكون دقيقًا– بدأ الناس يستخدمون هذا المثل، خاصة مع غلاء الأسعار، للتدليل على أن هناك أماكن معينة أولى من الجامع، خاصة بعدما امتلأ بالتكييفات والسجاد المُبطن تحته أسفنج.. مثل المدارس بكل ما فيها وحولها وعنها، حيث نرى تكدسًا رهيبًا في الفصول وزيادة المصروفات ومضاعفة أسعار الدروس الخصوصية.. كل هذا جعل الناس ينظرون إلى أن هذه الجهة في التبرع هي أولى بالرعاية.
ويليها في الترتيب الفقراء واليتامى والغارمات، وفضلوا الابتعاد قليلا عن المستشفيات الشهيرة.. فالمستشفيات الكبيرة الخيرية، لها حملاتها الإعلانية الخاصة التي تنتشر في شهر رمضان لتدر عليهم ملايين التبرعات السنوية.
فلا تكاد تفتح قناة إلا ويظهر الإعلان يدعوك للتبرع، تفتح برنامجًا أو تشاهد مسلسلًا، نفس الإعلانات لنفس المستشفيات الخيرية لا تكف عن طلب المساعدة.. وحتى عندما تقرر أن تبتعد قليلًا عن هذا الصخب.. وتفتح قناة المجد للقرآن الكريم، لتسمع بعضًا من "كلام الله" وتستريح من بعض هموم الحياة ومهامها، تجد إعلانات للتبرع.. بدون صوت أو موسيقى أو ضجيج فهي عبارة عن لافتة موضوعة باستمرار في إحدى زوايا قناة القرآن الكريم.
وظهرت جملة "فلوس الجامع الفقير أولى بها".. على لسان الممثل "أحمد أمين" في مسلسل "جزيرة غمام" وسط مناظرته مع الشيخ "محارب" حين قال:
"كل اللي أعرفه.. إن اللي يحب ربنا يحبه.. وإن فلوس الجامع الفقير أولى بيها.. وإن القلب له وضوء.. زي ما فيه وضوء للإيدين والراس والرجلين.. واللي ينفع الناس هو إللي يخدمهم وتحتيهم مش اللي فوقيهم.. وإن اللي ينصح بالفقر وهو غني يبقى شيطان"
فربما استلهم الكاتب عبدالرحيم كمال، الجملة من الواقع المعاش، ووضعها على لسان البطل.. لينعش ذاكرة الناس حول أهمية توخي الدقة والحذر في التبرعات.
وأكرر مرة ثانية، كثيرون في محيطي الشخصي، كأنهم يتخذون قرار التصويت الاحتجاجي.. فهم يحتجون على تلك الإعلانات المتدفقة ليل نهار على أسماعهم وعيونهم.. ويفضلون الآن التبرع مباشرة للفقير الذي يعرفونه جيدًا، أو للمدارس المتهالكة والطلبة المتعثرين.. أو من يحتاج إلى عملية جراحية أو أرملة تُجهيز بناتها.. وغيرها من مصارف الصدقة والزكاة.
البعض يحتج بطريقة جديدة فيها تحرٍ أكثر للدقة، وفيها إدخال السعادة على المعارف والأقرباء والجيران وأهالي القرية.
وقرأت أن جملة "يحرم على الجامع" لا يقصد بها الجامع أو المسجد، وإنما يرجعها بعض الكُتاب إلى "جامع الضرائب" فى عهد الدولة العثمانية.. فقد كان "جامع الأموال" يمر لتحصيل الضرائب من المصريين بحسب القوانين فى وقتها.. ولأن الضرائب كثرت وزادت توحشًا، والأحوال المعيشية لم تكن على ما يرام، اخترع المصريون هذه الجملة ليعبروا عن خواء المنزل وقلة ما فيه.. حتى إنه لم يتبق إلا القليل الذي يحتاجونه في البيت.. وبالطبع لن يذهبوا به إلى جامع الضرائب.
ويستشهد البعض للتأكيد على صدق واقعة المثل الأول، بالمثل الثاني "بركة يا جامع إنها جت منك، وماجاتش مني" إشارة إلى أنه فى بعض الأحيان ينسى المرور ليحصل الضرائب.
وبغض النظر عن دقة هذا التحليل في شرح الجملة، والذي أشكك فيه خاصة أن الضرائب الباهظة في عهد العثمانيين كانت مقررة على الجميع وليس فيها استثناء بمجرد كلمة يقولها المواطن.
والاحتجاج على الوضع الذي يزعجنا أمر جيد، وتحري الصدقات أمر رائع.. لكنني أحب أن أضيف إليه، أن يحتج الناس أيضًا على المتسولين في الشارع والمواصلات والأماكن العامة.. خصوصًا المنتشرين بالمواصلات العامة والمطارات والمولات.. فكلما أعطيت لهم ازدادوا توحشًا.. وكلما أحسنت إليهم استمرأوا التسول.. وبالغوا فيه.. والمنع يقضي على تواجدهم أمامنا وأمام السياح والأجانب، وأغلبنا يعرف أن عدة ساعات فقط من التسول في شوارع القاهرة قد تجلب دخلًا يعادل نصف راتب موظف، فتوجه بتبرعاتك لمن تعرف أنه يستحق.
تويتر: @AhmedTantawi