الشورى كانت جانبًا مهمًا ورئيسيًا من عبقرية الفاروق، وقد تجلت في أفضل صورها في علاقة الفاروق بالرسول "عليه الصلاة والسلام"، برغم أنها كانت صفة أساسية في شخصية الفاروق، وترجع جذورها للعائلة؛ حيث كانت عائلة الخطاب هي التي تقضي في فصل الخلافات وتحكم فيها من قبل الإسلام، وبعد الإسلام تجلت في أعظم مظاهرها؛ لأن الفاروق كان يحب محمدًا "عليه الصلاة والسلام" حب إعجاب، ويؤمن به إيمان إعجاب مطلق، ويستصغر نفسه أمام عظمة محمد "عليه الصلاة والسلام"، وكان يؤمن بأنه لا ينطق عن الهوى، وكان عمر من أشد المعجبين والمؤمنين بمحمد "عليه الصلاة والسلام"، ومع ذلك كان أكثر الصحابة استقلالًا برأيه في مشورة النبي عليه الصلاة والسلام؛ بمعنى أن فضيلة الإعجاب والإيمان برسول الله لم تمنعه من مصارحة نبيه بالرأي الآخر في بعض المواقف.
فلم يحجم الفاروق يومًا ما عن مصارحة النبي عليه الصلاة والسلام بالرأي الآخر والمشورة؛ بمعنى أن الإعجاب والإيمان لا يتناقض مع الشورى وصراحة الرأي لأن الفاروق يعلم بالوراثة، ومن القضاء أهمية سماع الرأي والرأي الآخر للوصول للأفضل، والأجمل من صراحة عمر أن رسول الله "عليه الصلاة والسلام" كان يستمع إلى عمر حين يقترح أو يناقش، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها أن عمر أشار على النبي "عليه الصلاة والسلام" بالحجاب لأمهات المسلمين، فيؤمر المسلمين بعد ذلك ألا يسألوهن إلا من وراء حجاب، وهناك قصة وفاة عبدالله بن أبي (كبير المنافقين)، وهم النبي "عليه الصلاة والسلام" بالصلاة عليه تحدث الفاروق مذكرًا رسوله بمساوئ عبدالله وأقاويله ضد الإسلام، ثم نزلت آية التوبة (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:80)، والح عمر في التذكير حتى ابتسم الرسول "عليه الصلاة والسلام"، قائلًا "أَخِّرْ عنِّي يا عُمرُ"، ثم نزل القرآن الكريم بقوله (وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة:84)، وكان عمر رضي الله عنه من الذين يشربون الخمر قبل الإسلام، إلا أنَّه بعد إسلامه كان أكثر الناس كرهًا لها وابتعادًا عنها بعد أن نزلت آيات تحريم الخمر واضحة، وفي صلح الحديبية كان مغمومًا به، وذهب إلى الصديق يراجعه فيه قائلًا لماذا نعطي الدنية في ديننا، فرد الصديق أشهد أن لا الله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فردد عمر الشهادة بعده، ومع ذلك ذهب إلى رسول الله "عليه الصلاة والسلام" مرددًا ما قاله للصديق فرد عليه أنا رسول الله، ولن يضيعني الله أبدًا، فصمت عمر.
هكذا كان الفاروق في حياة رسول الله "عليه الصلاة والسلام"، واستمر يحترم الشورى والرأي الآخر أثناء ولايته وطول عمره، ولا يتردد بالاعتراف بخطئه في إحدى المرات، قائلًا: لقد أصابت امرأة وأخطأ عمر، واجتهد الفاروق في قضايا كثيرة أخرى مثل سهم المؤلفة قلوبهم وأوقفه عندما أصبحت الدولة الإسلامية قوية وليست في حاجة لمثل هؤلاء.
وأيضًا سبق الإشارة إلى أنه عند فتح الله على دولته بالشام ومصر وفارس والعراق أوقف سهم المحاربين، قائلًا ماذا نترك لأولادنا وأحفادنا، وسن صلاة التراويح في رمضان بالمساجد وغير ذلك عِبَرٌ كثيرة ودروس عظيمة لكل الأجيال في أهمية الرأي والحوار وتبادل الآراء للوصول للأفضل ومصلحة الأمة، فعمر كان يملك الإلهام والبصيرة الروحية والعقلية معًا.
وفي الختام، يكفي ابن الخطاب شهادة رسول الله "عليه الصلاة والسلام" له؛ حيث قال عن عمر (إنَّ اللهَ جعَلَ الحَقَّ على لِسانِ عُمَرَ وقَلبِه)، هذه هي الشورى في فكر وحياة الفاروق في أروع صورها وأجمل معانيها دروس وعبر لكل الأجيال رحمة الله عليك أمير المؤمنين.