يبدو أن النسيان ليس آفة حارتنا فقط -كما قال نجيب محفوظ- وإنما تكرار النسيان يعد مأساة كبرى لا يمكن أن تمر من دون خطر حقيقي، فلا نجوى حاليًا بين أثنين أو ثلاثة إلا وتجد أحدهم غاضبًا من المليارات التي أنفقت على البنية التحتية والطرق والنقل والسكك الحديدية، بينما كانت هذه الأمور تحديدًا مثارًا لانتقادنا جميعا، وبالذات يوم أن حصلنا على "صفر" المونديال، وفازت به جنوب إفريقيا بـ 14 صوتًا، وحازت المغرب على 10 أصوات.
كانت الصدمة والمأساة أيضًا في حكومة ظنت أنه بالأغاني وبالاستعانة بعمر الشريف سوف نحصل على شرف تنظيم المونديال.
واعتبر الاتحاد الدولى لكرة القدم الطرق والخدمات والإدارة في مصر لا تصلح.. وعرفنا في ذلك اليوم البائس من منتصف مايو 2004 أن لجانا زارت مصر سرًا وعلانية، رأت أنه بلد غير جاهز، بسبب الطرق ووسائل المواصلات والبنية التحتية، وانتقد المنتقدون فشل الحكومة في إعداد أو الارتفاع بمستوى الخدمات اللائقة للشعب قبل الضيوف الذين كانوا سيصلون ليتعذبوا معنا.. وأتذكر أنني صبيحة يوم النتيجة (16 مايو 2004) كنت في مكتب محافظ الفيوم مع عدد من الزملاء الصحفيين وكان معنا عدد من سفراء الاتحاد الأوروبي، وقلت للمحافظ إنني سعيد لعدم إسناد تنظيم كأس العالم لمصر، "كانت ح تبقى مصيبة واحنا مش مستعدين لها"، واستغرب السيد المحافظ.. ولكي أقنعه فإنني شكوت له من خطأ وقعت فيه ليلة وصولي إلى الفيوم مع أسرتي، إذ فوت طريق بحيرة قارون السياحي، كان الليل قد دخل، ولم أر اللافتة.. ودخلت بعدها من وسط البلد.. وكدنا ننقلب في ترعة ونصطدم بأحجار في طريق مهترئ، فلامني السيد المحافظ على أنني لم أدخل من الطريق السياحي!
بعد العودة من الفيوم قرأت مقالا للخال عبدالرحمن الأبنودي في الصفحة الأخيرة من صحيفة الوفد يعرب فيه عن سعادته بعدم فوز مصر بتنظيم كأس العالم و"خلي فضايحنا جوانا" أو هكذا كتب.
(لم أعثر على المقال باستخدام جوجل لكنني لا أنساه أبدًا)..
وبدلا من الاعتراف بالحق الذي هو فضيلة، بدأ نجم صفر المونديال الدكتور علي الدين هلال، أستاذ العلوم السياسية ووزير الشباب الأسبق، يتحدث عن رشاوى رفض أن يدفعها للحصول على الشرف الرفيع.
وفي أحاديث متلفزة متواصلة أعتبر "صفر المونديال" وسامًا على صدره، لأنه رفض رشوة طلبها مسئولون بالفيفا آنذاك، بينما دفعت ـ هكذا قال ـ جنوب إفريقيا 10 ملايين دولار!.
وإذا لم ننس فقد قلبنا الصفر الحزين إلى سخرية، والإحباط إلى ضحك متواصل، وتذكرنا المتنبي الذي رأى بمصر كم من المضحكات..
وتساءل البعض لماذا البخل، ولماذا صفر واحد، ألم نكن نستطيع الحصول على صفرين!..
أما الدكتور علي الدين هلال فقد أصبح بعد ذلك أمين الإعلام بالحزب الوطني.. أنا أحبه على المستوى الشخصي، لكنني لا أنسى أن زميلنا القديم الأستاذ أسامة هيكل التقط في مقال له في شهر يوليو 2010 ـ لا تنسى أن المقال نشر قبل ثورة يناير بستة أشهر ـ مصطلحات لطيفة للدكتور هلال، قال بها أمام طلاب الجامعات فى معسكر أبوبكر الصديق بالإسكندرية، مثل: "الدولة البالوظة" ثم "الدولة الهزؤ"، معرفًا "الدولة الهزؤ" بأنها الدولة التي تعدل دستورها استجابة لشخص معين أو فئة معينة.
ولا أكتب لأحسب ما صرفناه على ذلك العبث من أموال المصريين، ولا لنقد الدكتور هلال وإنما لنرجع إلى أصل الموضوع، وهو مسألة النقل والطرق والبنية التحتية الآن، والتي وضعتنا في مكانة معقولة بالنسبة للطرق، وقد شغلت أيادي عاملة، ولها دور في الاستثمار المحلي والأجنبي. ولا أريد أن نتقدم الآن بطلب لتنظيم كأس العالم ـ قد يحدث ـ ولكن أكتب لأن كثيرين يرون أن ما صرفته الحكومة الحالية على الطرق لا داعي له، أو أنه أكثر من اللازم. وأن فقه الأولويات كان جديرا بتوجيه هذه الأموال للصحة والتعليم. ولا تنشأ الدول أو تتقدم بتوجيه كل أو غالبية أموالها نحو هدف واحد، وإنما التنمية تكون على مسارات عدة متوازية، تخدم بعضها.. كما أن الحكومة لم تلق بالتعليم والصحة عرض الحائط..
إن قطاع النقل يشهد تقدمًا واضحًا على مستوى شبكة الطرق، وتزيد عشرات الكيلومترات خطوط مترو الأنفاق، وبعد أن رفض الرئيس مبارك مد شبكة المترو إلى أكتوبر، وقال لوزيره محمد إبراهيم سليمان إنه يريد "اللي يروح ما يرجعش"، فإن أساسات مونوريل أكتوبر تمتد حاليا فوق المحور، ونتمني ألا توهن عزم الحكومة الأحاديث المسيسة حول جدوى الطرق ووسائل النقل..
ونعود إلى آفة النسيان فالأموال التي صرفت على البنية الأساسية في الطاقة والكهرباء كانت مهمة بعد أن كنا نتحسب تخفيف الأحمال وتوزيع الانقطاع على الأحياء والشوارع بالساعات، وكنا باستمرار نحتاج للمرشد الأمين إلى محطات البنزين.