هل فضل الله الغني فأغناه، ونقم على الفقير فأفقره؟ بالطبع كلا.. يقول تعالى"فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ".
إن الله سبحانه وتعالى قسم الرزق بين الناس وقدر أقواتهم، وهداهم لما ينفعهم، جاعلًا سبحانه لكل شيء سببًا، والسبب في هذا المقام السعي والجد في طلب الرزق وتحصيل ما ينفع مع الاستعانة بالله، وعلى عكس ما يظن مثير من الناس فإن العفاف زينة الفقر، والشكر والعطاء زينة الغنى، وليس كما يعتقد البعض بأن الفقر نقمة والغنى نعمة، قاطعين بأن كل فقير في شقاء، وكل غني منعم في خير.
إن الغنى والفقر كليهما امتحان من الله لعباده، وحكمة ندرك أبعادها من تعايشنا في هذه الحياة الواسعة، وقد قال الله تعالى في محكم آياته: "وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ".. حيث إن الله قد خلق الناس جميعا، وخلق الغنى والفقر ليختبر العباد أيهم أحسن عملاً.
فإذا تأملنا عمق الحكمة فيما نظنه كرمًا أو محنة من الفقر والغنى، سنعرف كيف أن ميزان الأرض يستقيم ويعتدل بقسمة الله وعدله ورحمته وتقديره الذي هو أفضل وأحسن تقدير، بل إنها الرحمة الإلهية التي تتجلى في العطاء الرباني ومنح الثواب والدرجات على الحالين، فالفقير الذي يصبر ويشكر يجازى الخير، والغني الذي يعطي ويمنح ليكون سببًا من أسباب الله في الأرض وجسرًا للخير، ويشكر نعمة الله عليه يجازى الخير، إذ يقول تعالى "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عجبًا لحال المؤمن، إن أمره كله خير، فإن أصابَته سرَاءُ شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرًا له".
ولنتخيل معًا لو أن الناس جميعًا أغنياء مكتفين لا حاجة لأحد عند أحد، فما كنا نسعى في طلب الرزق، وافتقد الناس مهام واحتياجات كثيرة تعين على الحياة، وهنا حكمة من حكم التفاوت في الرزق، إذ يقول تعالى "وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا"، أى يستعمل بعضهم بعضا في الحوائج المختلفة، فينشأ التآلف والمودة والرحمة بين الناس، إذ يُسخر الله الأغنياء بأموالهم لإسعاد المحتاجين فالمال مال الله سبحانة وتعالى، ويسخر الفقراء بالعمل والصبر، ويكون الناس أسبابًا في المعايش لبعضهم بعضا، هذا بعمله وجهده وذاك بإنفاق أمواله في الخير وما حدده الله من قنوات.
لم تكن الأديان والإسلام أبدا دعوة للفقر وترك المال وعدم الغنى، بل إن فضل الغنى وكبح جماح شهوة المال قد جاء في آيات عدة وأحاديث توضح وتحث على الإنفاق في سبيل الله، إذ قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم"..
وكثيرًا ما يكون الفقر هو الخيرَ كله للإنسان، إذا كانت النفس تواقة ونهمة أو كانت لا تدري وجهة طموحها الذي قد يأتي على صاحبها وعلى الناس، حين يظن بحاله القوة وامتلاكه الثروة فيتجبر ويطغى وينشغل بحاله عن عبادة الله وعن التراحم والتواد بينه وبين أخيه والناس من حوله، وفي ذلك يقول تعالى: ((وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ)).
ومن تعاليم الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم أن لا تُشعر من تتصدق عليه بأنك تَمُن أو تتفضل عليه، فقد أتصف صلى الله عليه وسلم أنه إذا آتاه من يطلب الصدقة أعطاه وهو مبتسم ولذلك قال: «إذا أتاكم الْمُصَدِّقُ فليصدر عنكم وهو عنكم راضٍ»،
ولهذا خاطب الله سبحانه وتعالى الذين آمنوا وقال لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِى يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ * فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِين).حتى إن السيدة عائشة أم المؤمنين، رضى الله عنها، كانت تحرص علي تعطير النقود بالمسك قبل أن تعطيها الفقراء، وعندما سوئلت عن ذلك قالت: «الصدقة تقع بين يدى الله قبل أن تقع فى يد الفقير».
وعن أَسماءَ بنتِ أَبي بكرٍ الصّديق رضي اللَّه عنهما قالت: قَالَ لي رسولُ اللَّه ﷺ: ((لا تُوكِي فيُوكَى عليكِ))،
وفي روايةٍ: ((أَنْفِقِي، أَو انْفَحِي، أَو انْضِحِي، وَلا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيكِ، وَلا تُوعِي فيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ))، ولعلنا في هذه الأيام المباركة الكريمة ونحن في العشرة الأواخر، وكل إنفاق هو في سبيل الله ينعم الله به على صاحبه ويرزقه خيرًا مضاعفا لأنه شعر بأخيه الإنسان في محنته فزاده الله خير، إذن هي أجمل وأرقى دعوة إلى كثرة الإنفاق في سبيل الله والصدقة والزكاة مهما كانت قدراتنا المالية حتى ننال البر مصداقًا لقوله تعالي: "لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ"، وليكون إنفاقنا سببًا في زيادة البركة في الحياة والصحة والمال والأولاد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِن يومٍ يُصبح العبادُ فيه إلا ملَكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ مُنفقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلَفًا".