من أول وأشهر من كتب عن عبقرية الرسول "صلى الله عليه وسلم" الإدارية عباس العقاد، وكان يردد "الإدارة ليست نصوصاً وقواعد لأنها موجودة في الكتب والمجلدات، ولكنها تعني الملكة الإدارية من حيث هي أساس التفكير، فليس في وسع رجل مطبوع علي الفوضى مستخف بالتبعة أن يقيم دولة أو يؤسس إدارة نافعة حتى لو كان كبير العقل والهمة، فلابد أن تكون لديه الفطرة المطبوعة علي إقامة الإدارة النافعة والتي تعرف النظام والتبعة والاختصاص في العمل".
- وقد كانت هذه الفطرة عند النبي محمد على أتم ما تكون على رأي العقاد، فكان يوصي بالرياسة حيثما وجد العمل الاجتماعي أو العمل الذي يحتاج لتدبير ومن حديثه المأثور: إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم، وكان يرسل الجيش وعليه أمير وخليفة له وخليفة للخليفة إذا أصيب.
- وكان قوام الرئاسة عنده "صلى الله عليه وسلم" شرطان هما جماع الشروط في كل رئاسة وهما "الكفاءة والحب" وكان حديثه "أيما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين"، وكان يرفض أن يؤم الرجل قوما هم له كارهون.
- وكان من عبقريته الإدارية تقريره قاعدة "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" وحدد لكل نطاق راعيها حتى قال: "والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها"، ثم أجمل قائلاً: "وكلكم راع ومسئول عن رعيته"، وهذا يعني أنه لا ينفك أي إنسان عن مسئولية إدارية صغرت أم كبرت سيسأل عنها في الدنيا والآخرة وعليه أن يقوم بهذه المسئولية علي أكمل وجه.
- وعن عبقريته الإدارية فإن النبي "صلى الله عليه وسلم" لم يترك لأحد من الصحابة رغم صلاحهم حقاً في إقامة الحدود أو إكراه الناس على طاعة الأوامر أو اجتناب النواهي من غير من لهم ولاية الأمر وسياسة الناس".
- وفي تحريمه للخمر تدرج في هذا التحريم، وصدق العقاد حينما علق على ذلك بقوله: "وهذا تصرف المدير بعد تصرف النبي الذي يبين الحلال من الحرام"، فالمحرمات الاجتماعية ينبغي أن تكون بيد ولي الأمر لا في يد كل فرد يعرف الحلال والحرام حتى لا يصاب المجتمع بالفوضى والاضطراب وانتزاع الطاعة وتجاهل السلطان، فليس كل أحد يقيم الحلال ويمنع الحرام، فبيان الحلال والحرام شيء، وإنفاذه شيء آخر، إنفاذ الأحكام شيء مختلف، فقد قام الرسول بنفسه وعين أناسًا في الأسواق دون غيرهم لمصادرة الخمر ولم يترك ذلك لكل من هب ودب.
- ومن أهم القواعد الإدارية التي وصفها النبي"صلى الله عليه وسلم" لاستقرار المجتمعات وأمنها قوله: "السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"، وكذلك قوله: "ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحا عندكم فيه من الله برهان".
- ومن قواعده الإدارية الرائعة في الحكم والإدارة "إن الأمير -المسئول- إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم"، وهذه القواعد كلها تعطي استقراراً وطمأنينة للحكم والمجتمع على السواء ويعلق العقاد وعليها بقوله: "نظام وفوق النظام سلطان وفوق السلطان برهان من الشرع والعقل لا شك فيه، وجميع أولئك على سماحة لا تتعسف النزاع ولا تتعسف الريبة ولا تلتمس الغلواء".
- ويرى العقاد أن هذا الإلهام النافذ في تدبير المصالح العامة هو الذي أوحى للنبي الكريم الأمي قبل كشف الجراثيم والفيروسات وقبل تأسيس الحجر الصحي بين الدول أن يأمر بمثل ذلك: "إذا سمعتم بالوباء أو الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها"، عبقرية الرسول الإدارية فهو أول من أمر بالحجر الصحي في العالم كله، ولكن أكثر خصوم النبي يجحدونه مكانته وحقه.
- ومن عبقريته الإدارية أيضاً حتى قبل النبوة تصرفه حينما استدعي في أزمة وضع الحجر الأسود التي كادت أن تطيح بقريش، فقالوا جميعاً: "رضينا بالأمين حكما، فأبى بحكمته أن يحمله وحده فيستأثر بالفضل دون العرب أو يجعل بطنا منهم يحمله، ولكنه بسط رداءه الشريف ثم أمر من كل قبيلة واحد فحملوه جميعاً فشعروا بالمشاركة"، وهذه فلسفة إدارية عظيمة، إشراك الجميع في المسئولية والسلطة فيزول الصراع السياسي والتنازع علي السلطة، المشاركة لا المغالبة تحل كثيراً من مشاكل الحياة حتى الأسرية والوظيفية والتجارية.
- وظهرت عبقرية الرسول "صلى الله عليه وسلم" الإدارية يوم هاجر من مكة إلي المدينة فاستقبلته الوفود تتنافس علي ضيافته وهو يشفق أن يقدح في نفوسها شرر الغيرة بتمييز أناس منهم علي آخرين أو اختيار منزل على آخر، فما كان من حكمته إلا أن ترك لناقته خطامها تسير ويفسح الناس لها الطريق حتى بركت حيث طاب لها أن تبرك.
- وصنع ذلك يوم فضل بالغنائم أناساً من الطلقاء ضعيفي الإيمان من مكة على أناس من صادقي وثابتي الإيمان من الأنصار، فلما غضب الأنصار أسرع النبي إلى إرضائهم بالحجة التي لا تغلب بل تريه أنه هو الكاسب الفائز: "أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلي إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله "صلى الله عليه وسلم" إلي رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار".
- يعلق العقاد عليه "الإدارة والرياسة هبة من هبات الخلق والتكوين، وما من مجتمع يساس بهذه الخصال ويبقى فيه منفذ بعدها لاختلال أو إنحلال أو لخطل في إدارة الأعمال".
- سلام على النبي العظيم المعلم للبشرية كلها الرحيم الحكيم الإداري العظيم.