يعتبر عصر الخديو إسماعيل أزهى عصور مصر عمرانيا وثقافيا وفنيا، فمثلما تشكل الوعي الثقافي في المجتمع خلال تلك الفترة، كانت هناك طفرة عمرانية هائلة بلمسات فنية رائعة جسدتها السرايات والقصور التي انتشرت في مختلف المدن المصرية، والتي انعكست بالطبع على الحياة الاجتماعية لعامة الشعب، فكان انتقال مقر حكام مصر من القلعة إلى عابدين في حد ذاته نقطة تحول في تاريخ المصريين.
فور توليه حكم مصر 1863م، قرر الخديو إسماعيل بناء مقر جديد لحاكم مصر يتزامن مع بدء تخطيط القاهرة الحديثة على الطراز الأوروبي، بدءا من الشوارع والميادين والبنية التحتية وأيضا المباني.
سراي عابدين.. درة قصور مصر التاريخية تحفة فنية نادرة، شاهدة على حقبة مهمة جدا من تاريخ مصر الحديث، فظلت مقرا للحكم من 1872م إلى 1952م. وقع اختيار الخديوي على منزل عابدين بك أحد القادة العسكريين في عهد محمد على، وكان قصرا صغيرا فاشتراه من أرملته، كما اشترى المباني المجاورة وهدمها إلى أن بلغت مساحة الأرض 24 فدانا، وفقا لما جاء في حجة ملكية السراي التي بلغت تكلفتها الإنشائية 100 ألف جنيه مصري ذهب، وعرفت السراي والمنطقة بأكملها باسم صاحب القصر الصغير.
بنى السراي على الطراز "النيو كلاسيكي" الفرنسي وصمم تحت إشراف المعماري الفرنسي "ليون روسو"، وشارك في تصميمه وتنفيذه عدد من المهندسين والمقاولين وطنيين وأجانب، تمتد أمام السراي مساحة واسعة من الأرض الفضاء مثل ساحة الكونكورد في باريس أمام قصر التو بارى الإمبراطوري. (وليس لعمل كافيهات).
سراي عابدين من أجمل وأروع وأكبر القصور في العالم، يضم حوالي 270 حجرة، يتكون من طابقين، العلوي يضم السلاملك (جناح الرجال والاستقبال والاحتفالات والمقابلات الرسمية) والحرملك (جناح الحريم) على عكس المألوف في السرايات الأخرى وخصص الطابق الأرضي للتشريفات والمخازن والخدم، أما المطابخ فهي في مبنى مجاور. للسراي عدة أبواب أشهرها باب باريس المؤدي إلى الحرملك وكان مخصصا لدخول الإمبراطورة أوجيني عند حضورها احتفالات افتتاح قناة السويس، ولعدم اكتمال البناء، أقامت في سراي الجزيرة.
يضم السراي عددا كبيرا من القاعات والصالونات التي تتميز بلون جدرانها، الأبيض والأحمر والأخضر والعديد من الأجنحة الرائعة، ومكتبة ضخمة تحتوي على حوالي 155 ألف كتاب، ووثائق أثرية من عهد محمد علي إلى فاروق، ومسرحا كبيرا ويضم السراي العديد من التحف واللوحات النادرة تمثل كنوزا قيمة ولوحات فنية أصلية لا تقدر بثمن، اشتراها حكام الأسرة العلوية على مر الزمن.
من أبرز الأحداث التي شهدتها السراي تظاهرة أحمد عرابي في 9 سبتمبر 1881م والتي قدم فيها عرابي إلى الخديو توفيق مطالب الجيش والأمة، وشهد ميدان عابدين بدايات ثورة 1919م عندما امتلأ بالمتظاهرين مطالبين الملك فؤاد الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه وعودتهم من المنفى، وحادث 4 فبراير 1942م حين أنذر السفير البريطاني الملك فاروق بعزله عن العرش إذا لم يستجب لرغبتهم في تولى النحاس باشا رئاسة الوزراء.
سراي الجزيرة.. ويقع في الجزيرة المقابلة لبولاق "الزمالك" وحتى يمكن الوصول إليه تم إنشاء كوبرى قصر النيل.
شهد السراي الذى بنى 1863م، الكثير من الأحداث التاريخية ،فكانت مقر إقامة الإمبراطورة أوجينى أثناء زيارتها لمصر بمناسبة افتتاح قناة السويس، كما شهدت احتفالات "أفراح الأنجال" أبناء الخديو إسماعيل حيث دعا ما يقرب من 5 آلاف مدعو من أعيان مصر والأجانب لحضور حفل راقص بهذه المناسبة، كما شهد السراي النهاية المأساوية لإسماعيل المفتش "إسماعيل صديق" وزير المالية في عهد إسماعيل، حيث نقل من هذه السراي على متن مركب متجهة إلى دنقلة بالسودان ثم مات بطريقة غامضة.
كانت مساحة السراي والحديقة المحيطة به 60 فدانا، وصمم على الطراز العربي القديم، فيضم اثنين من السلاملك أحدهما للحريم وآخر كبير به بلكونات وبواكي من الحديد، وبداخله صالون جميع نقوشاته تصور محاصيل مصر الزراعية، ويحتاج وصف السراي وما اشتملت عليه من زخارف ومفروشات وبساتين وما تحويه من أشجار وزهور وبرك وقناطر وحيوانات وطيور نادرة وغيرها من الإبداعات إلى مجلد كبير.
بسبب الأزمة المالية التي مرت بها مصر تم بيع السراي إلى شركة الفنادق المصرية لسداد ديون إسماعيل، وبعد عزله افتتح فندقا باسم "فندق الجزيرة"، وتعددت استخداماته إلى أن اشترته أسرة حبيب لطف الله "أمير شامي" 1919م، وبعد 1952م تحول إلى فندق عمر الخيام ثم انتقلت إدارته لشركة ماريوت العالمية 1977م.
ومن القصور التي بيعت لسداد ديون إسماعيل "فندق مينا هاوس" وكان استراحة للخديوي بناها بهضبة الأهرام 1869م، ثم تحولت إلى قصر وشق شارع الهرم المؤدي إليها لاستقبال ضيوف حفل قناة السويس.
وفى 1883م عندما زادت ديون إسماعيل اضطر ابنه الخديو توفيق لبيع القصر، فبيع لثري بريطاني وزوجته وأطلقوا عليه اسم "مينا" نسبة إلى الملك مينا موحد القطرين، ثم بيع مرة أخرى لرجل إنجليزي وزوجته عرف عنهما عشقهما للآثار المصرية القديمة، وقررا تحويل القصر إلى فندق "مينا هاوس" وتم افتتاحه 1886م.