لشهر رمضان الكريم تجليات عظمة تصعد بالروح إلى السمو.. وحكمة تجليات رمضان ممتدة فى كل عمل وفعل وصنع وهى كذلك فى القول خاصة قول العلماء والكتاب والمفكرين، لذلك يعد المبدعون شهر رمضان شهر النشاط الفعلى، شهر نفح لطيف فى وهج القراءة والكتابة.
موضوعات مقترحة
هكذا فعل شهر رمضان بكتاب كثيرين أوصلهم إلى درجة عالية من الإبداع، متميزة بالاستشراق المعرفى، مستشرفة فى آفاق الفكر ومن بين هؤلاء الكتاب المفكر عباس محمود العقاد، وفي كتابه «الإسلام دعوة عالمية» كانت فريضة الصيام محل إهتمام من العقاد وتموضع كتاباته فى هذا الكتاب فقد حفل الفصل الثانى بسطور عميقة فى التفسير والتأويل والإستنباط عن شهر رمضان الكريم فكانت العناوين فى الفصل الثانى رمضان والصيام وليلة القدر ثم عيد الفطر.
وفى هذا الفصل نقرأ ما تيسر من سطور ونعيش فى شهر الصيام عن كلام فى رمضان شهر الصيام، هذه الفريضة المثلى بين ألوان الفرائض الدينية، لأنها تجىء فى شهر معلوم فسيشمل العالم الإسلامى كله وتصبح هذه العبادة فيه عبادة فردية وعبادة إنسانية عامة فى وقت واحد وهى تجىء فى شهر قمرى يختلف موقعه من فصول السنة. فلا تقتصر الرياضة النفسية على موسم دون موسم ولا تختص بالصيف دون الشتاء ولا الشتاء دون الصيف.
ويقول العقاد: قال تعالى فى سورة التوبة: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ} وقال تعالى فى سورة التحريم: {مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ}.
وأرجع القول فى التفاسير أن المقصود بالسياحة فى الآيتين. الصيام وهو معنى جميل يدل على حقيقة الصيام الجوهرية وأنه سياحة من عالم الجسد إلى عالم الروح فلا يكون قصاراه الإمساك عن شهوات الجسد ساعات من اليوم ولا يزال الغالب عليه أنه سمو عن تلك الشهوات كأنها رحلة إلى مكان قصى منه وإنتقال من محال إلى محال.
ويؤكد العقاد: أن الحكمة الكبرى فى الصيام هى القدرة على النفس فهى الحكمة التى يحتاج إليها الغنى والفقير ويستفيد منها المجدود والمحروم، فالقدرة على النفس هى كل شىء فى مقاييس الأخلاق والفضائل، بل هى مناط الأخلاق والفضائل فى كل حالة وكل معيشة أيًا كان حظها من الغنى والفقر ومن السعادة والشقاء وليس فى وسعنا أن نتخيل فضيلة تخلو من قدرة الإنسان على نفسه بل ليس فى وسعنا أن نتخيل تكليفًا يقوم به الإنسان من غير تطويع نفسه ولا فرق فى التكليف بين فرائض الدين وفرائض الدنيا أو بين العبادات ونظام الإجتماع ونظام الحياة الفردية الذى يفرضه الإنسان على نفسه لأداء عمل حتى الأعمال، فهذه القدرة على النفس هى حكمة الصيام الكبرى وهى جزاء وافِ لصيام الصائم يساوى بل يزيد على ما فاته من الطعام والشراب.
ونقد العقاد مقولة القائلين: بأن الصيام إنكار للذات حيث يرد قائلاً: قديمًا قال القائلون أن الصيام ضرب من إنكار الذات، ونعتقد أنهم أخطأوا فيما قالوه لأن الصيام أقوى الوسائل لتقرير الذات لا لإنكارها ومن وجد ارادته لا يقال عنه بمعنى من المعانى الصحيحة أن أنكر ذاته وفقد نفسه وإنما يقال عنه أنه أثبت ذاته وقرر لها وجودها على أحسن الصور وتلك هى الصورة الإنسانية الحرة التى تملك زمام ضميرها وغريزتها وتستطيع أن تصبر على الشدة التى تريديها لأنها تستطيع أن تريد.
ويضيف العقاد: إن استرسال المرء مع الغرائز الحيوانية والشهوات العمياء هو الضياع الذى يزرى بصاحبه لأنه يجرى به مجرى الآلة المندفعة إلى حيث تدفع أو لأنه على أحسن ما يكون يجرى مجرى الحيوان الذى لا يعرف له ضميرًا يغالب الغزيرة والشهوة ولكن الفضيلة الإنسانية توجد وتثبت وتتقرر حين توجد القدرة على الامتناع وتوجد المشيئة التى توازن بين ما تحجم عنه وتسترسل فيه. والصيام رمزمحسوس لهذه القدرة على سلطان الطعام والشراب وسلطان العادة المألوفة وهما طريقان إلى القدرة على غيرهما لأن غيرهما شبيه بهما فى مكافحة الغريزة أو مكافحة العادة وقلما أحتاج الإنسان إلى ضبط وتغليب الإرادة.
وعن ليلة القدر يقول العقاد: إن ليلة القدر لخير من ألف شهر كما جاء فى القرآن الكريم ولكنها لم تكن خيرًا من ألف شهر لأنها فرصة أو «أوكازيون» كما نقول أيضًا باصطلاح هذه الأيام، وإنما كانت خيرًا من ألف شهر لأنها فاتحة عهد جديد فى تاريخ الضمير هدى للناس وبينات.