فى هدوء وثقة، يتحرك تيار ثقافي جديد قديم يحمل بشريات صنف أدبي أثير لدى الجمهورين العام والخاص، ينحدر في إصرار.. يتدفق عبر قنوات رفيعة ضيقة بين أنهار هادرة من الكتب والروايات والقصص التي تستهوى الشباب، إنه تيار يضم مجموعة من الكتب التي هي مزيج من السيرة الذاتية والتأريخ والاعترافات الأدبية التي تتماس في بعض نقاطها مع السياسة وأحداثها المتسارعة.
ربما بدأ هذا التيار في الانبثاق في أعقاب الثورات الملونة، أو ربما قبل هذا بقليل، لكن المؤكد أنه يتقدم في ثبات وهدوء، وأتوقع له الاستمرار بل والتكاثر والتعملق مستقبلا.
ثمة تجربة هي تلك التي يقوم بها الصحفى المخضرم عادل حمودة في مذكراته الأسبوعية- التي كان ينشرها- بأخبار اليوم والحافلة بأسرار شتى بألوانها السياسي منها والأدبي والفني.. ولا شك أنها سوف تتحول يوماً ما إلى كتاب أو سلسلة كتب.
وبعيداً عن مثل هذه الكتابات مصرية الانتماء التي كثرت في السنوات الأخيرة، فإن هناك كتابات أخرى تستشرفنا عبر البحر وتقطع صحراء جزيرة العرب لتطل علينا من منطقة الخليج الملأى باللآلئ.
ولعلنا نندهش ونفغر الأفواه انبهاراً عندما نسمع كيف يتم ترشيح أحد كُتاب الإمارات الحداثيين لجائزة نوبل، والإمارات ليست قريبة العهد بالثقافة وإنجازاتها، فالتجربة الشارقية المتميزة أوجدت لها جذوراً عميقة كان من ثمارها أن تخترق حدود الإقليم العروبي نحو آفاق عالمية أكثر رحابة.
هناك تجارب أدبية لحاكم الشارقة (الشيخ سلطان القاسمي) بعضها ينتمي لمثل هذا التيار الأدبي المرتكز على الصراحة والاعتراف وسرد الذات.
القاهرة بما لها من سحر وحضور حظيت بجزء عظيم من سرديات (سلطان القاسمي)، كما أنها مثلت عنواناً رئيسياً لكتاب آخر ينتمى للسرديات الذاتية المسبوكة من قصاصات ورؤى متفرقة احتشدت بين ضفتى إصدار طازج من إصدارات هيئة قصور الثقافة المصرية يحمل عنوان: (القاهرة أو زمن البدايات) لمؤلفه القادم من صحراء الخليج المتاخمة للشارقة، وهو الكاتب والشاعر العماني (سيف الرحبي). له عدد من دواوين الشعر والمؤلفات الأدبية التي تتخذ من الأماكن والشخوص وتداعيات الذاكرة والتجارب الذاتية أهدافاً لنُشّابه الأدبى، وأقلاماً كالنبال تصيب أهدافها في دقة وتركيز، حتى إن أعماله ترجم معظمها إلى عدة لغات كالألمانية والفرنسية والهولندية.
فى كتابه نقرأ لغةً شاعرية موحية تتهادى فيها مفردات الأديب الستينى المخضرم (سيف الرحبي)، وكأن سردياته عن القاهرة قصيدة نثرية طويلة تنضح بألفاظ منحوتة ببراعة وحنكة. نقرأ له يتحدث عن بدايته في القاهرة فيكتب: (هذا أول يوم لك في القاهرة، تلك المدينة التي قدمت إليها تلميذاً. كانت محطة التكوين الحياتي والمعرفى الثانية بعد مكاني الولادي الأول. وبلغة الرحم الفرويدية، هي الرحم الثاني.
تستيقظ مبكراً قبل انفجار الضوء والحركة وتلفع وجه المدينة بذلك الديكور البشري الضخم، تمشى وفى رأسك طنين صباحات فاتنة، وسط الشوارع والأزقة والمبانى التي سفحت فيها شطراً من عمرك، وثمة ضباب يبروز المدينة بأكملها ضباب لأول مرة تشاهده بتلك الكثافة، كأنما هو رسائل عيد ميلاد السنة من مدينة "هليوبوليس" الفرعونية كما سماها الإغريق، أقدم مدينة على وجه الأرض، "المهندسين"، "الدقى"، وصولاً إلى الجزيرة على حافة النيل مروراً بـ"العجوزة" التي ما زالت تبحث عن شبابها تنظر إلى شرفات المنازل والشقق التي كنت تسكنها.. ها أنت في المقهى نفسه بميدان الدقى.. نكهة القهوة إياها ربما تغيرت قليلاً، الأحاديث والنكت المبعثرة في كل اتجاه، الحمير التي تجر عربات شبه محطمة، رجل يسعل بشدة كأنه يحتضر، ورغم لك يعاود شفط النارجيلة.
تتذكر أنك كنت هنا في هذا المقهى كنت تحاول الكتابة وتحلم أن تصير كاتباً، خربشات على الورق، رسائل إلى امرأة مجهولة، لقاءات تنعقد في المخيلة بين فتوات نجيب محفوظ ومخلوقاته مع أناس يتوافدون من كل أصقاع العالم ليشكلوا سرد رجل مأسور بالارتطام والترحال).
وبأمثال هذه اللقطات المقتطعة من ذاكرة مثقف عربي عاش حياة القاهرة وامتصها وتمثلها في أعصابه، ثم تقاطرت تنساب منه في شكل لحظات كالحلم يرسمها قلمه كجدارية من الكولاج المختلط الألوان والصور والأحداث ليعرج بنا بين صور ومشاهد ومقتطفات تاريخية تقليدية، يرينا إياها بعيونه ورؤاه ذات الخصوصية والتفرد. منها مثلاً تلك اللقطة المهيبة لجنازة الزعيم عبدالناصر، حيث يتخذها مُنطلَقاً لتحليل التجربة الناصرية وتقييمها كتجربة وكاتجاه سياسي ليتساءل: (هل لو عاش عبدالناصر وكانت له فرصة البقاء حتى المرحلة الراهنة هل كانت صورته ستبقى على هذا النحو المثالى الحالم؟ أم أن صيرورة التاريخ والأحداث أكثر عناداً وعلى نقيض رغبات الأحلام والأفراد والجماعات؟) ويستغرقه الحديث عن الحقبة الناصرية ليصلها بزمننا الحاضر الذي يغص بالأحداث والتحولات ليسألنا بألفاظ مريرة المذاق: (هل يحق لنا التساؤل حول ما آلت إليه أمور العرب في العلم والحضارة والمعرفة؟ وما هي مكانتهم في هذا العصر الأكثر قلقاً واضطراباً وعلماً؟ تلك المكانة التي تبين خرابها الأقصى وفسادها المتراكم في التعامل مع المنعطفات المصيرية كالقضية الفلسطينية في اللحظة الراهنة التي يدفع بها الأعداء إلى الإفناء والإبادة لولا المقاومة الفريدة في التاريخ البشري بكامله لشعبها ورغبة البقاء والحياة بعيداً عن الإخضاع والعبودية المطلوبين. وقبلها وبعدها -القضية – حول قضايا التنمية والأفق الحضارى المنتظر الذى آل إلى إرث هائل من الإحباط والهزائم بمختلف مستوياتها وسوء الحال الذي يتداعى يوماً بعد آخر).
(سيف الرحبي) تكلم في كتابه عن علاقته بزمرة من مثقفى مصر من أصدقائه كجابر عصفور وشاكر عبدالحميد اللذين تقلدا منصب وزارة الثقافة سابقاً، لكنه اختص الشاعرين (أمل دنقل) و(على قنديل) بفصول من كتابه. فنقرأ لهجة فيها من التأسى بقدر ما فيها من المأساة.. يقول: (أخيراً ونحن نحتفي بالذكرى (الخامسة والعشرين) لرحيل دنقل، في هذه اللحظة المفصلية، التي توغل فيها الحضارة في مهاوٍ بربرية تكنولوجية حديثة، يحسن أن نُذكّر بمقولة الفرنسي ذي الأصل الروماني (سيوران) بأن (هتلر) و(ستالين) – مع الاحتفاظ بالفروق. ليسا إلا طفلين في جوقة موسيقية بالنسبة للقرن الذى نعيش بداياته البشعة، وقد أطبق طغاته وجهَلته على رقبة العالم والكون. أما عربياً فقد وصل الوضع إلى ما هو عليه إلى آخر الشوط في تغذية جلاديه وقتلته بالمال واللحم الحى، كى يكون لقمة سائغة من غير أبسط غصة في فم القاتل والجلاد، ابتلاع الفريسة بسلاسة بالغة، وهو ما لم يعرف التاريخ له مثيلاً حتى في أقصى العهود عبودية وانحطاطاً، هل نردد ما كتبه (دانتي) على باب جحيمه: "اخلعوا كل رجاء فأنتم على أبواب الجحيم".. ربما من هناك يبزغ معنى مختلف للوجود).
[email protected]ِ