تنتهى الإجازة الصيفية الطويلة. يتملك الغضب العقول الصغيرة. تعصف المراهقة والشعور بالفتوة بالقلوب الغضة.
نشعر بفورة التمرد. يقول الأهل الطيبون، إن المدرسة كفيلة وحدها بإخماد كل شيء، سوف تنتزعهم من اللهو واللعب، وتجعلهم كبارا يتحملون المسئولية، ثم لا يتوقف الأهل عن التهديد بالمصير المظلم لمن يتمرد على التعليم.
كانت المدرسة الإعدادية هى الوحيدة فى القرية (قرية تندة)، كانت مشتركة بين البنين والبنات. ولهذا كانت الحكايات الخيالية كثيرة ومتشعبة، دون أن تحدث فى الواقع.
كان يوم السبت السادس من أكتوبر، العاشر من رمضان من العام 1973 يوما عاديا.
منذ أسبوع واحد عدنا إلى المدرسة، ذلك فى يوم السبت، التاسع والعشرين من شهر سبتمبر1973، كنا منطلقين بملابسنا الجديدة من محلات صيدناوى وبأحذية باتا.
كتب الأستاذ فاروق سمعان تاريخ اليوم على السبورة السوداء بطباشير ملون، كتب الشهر الإفرنجى ثم العربى باللغة الإنجليزية (6 أكتوبر 1973 م... 10 رمضان1393هـ).
كان معلما فذا لهذه اللغة، صارما حاسما مرعبا، بعصاه الخيزران القصيرة، ذات الرأس الغليظة المكورة من أحد طرفيها، ويل لمن يخطئ، أو يتسبب فى خلل فى نظامه الصارم.
كانت الحصة الأخيرة محجوزة للأستاذ فاروق سمعان دائما. لن يجرؤ أى تلميذ أن يهمس، أو يشاغب، كان عهده عهد ألسنة صامتة، وأعين متكلمة.
على غير عادته فى الأسبوع الأول من الدراسة، كان متسامحا فى ذلك اليوم. حالما انتهى من كتابة تاريخ اليوم على السبورة، فرك يديه من آثار الطباشير، ثم قال: أيها الشطار سنراجع اليوم الدروس الماضية.
فى تلك اللحظة، سمعنا طرقا خفيفا على باب الفصل، نظراتنا البريئة اتجهت صوب الباب، كان ذلك الأستاذ حنا مرقص سكرتير المدرسة، يستأذن الأستاذ فاروق بالذهاب معه على عجل إلى مكتب السيد الناظر، إسحاق منقريوس.
رأيناه يشير إلينا بعصاه، يطالبنا بالصمت والهدوء التامين، ثم خرج مسرعا إلى الردهة الواسعة بالطابق الثالث، ثم نزل على الدرج الذى يصل إلى الطابق الأول، حيث مكتب الناظر قوى الشكيمة، شديد الانضباط.
دفعنا الفضول لننظر من شبابيك الفصل، شعرنا بالهلع، فقد رأينا الأستاذ عبد الله عبد القوى، والأستاذ بشرى جرجس، والأستاذة عنايات عطية حنا، والأستاذ ألفى سامي، والأستاذ محمد أمين، والأستاذ خلف الشيمي، يهرعون جميعا إلى الأسفل، كانوا فى الحقيقة يركضون. يبدو أن حدثا كبيرا وقع فى المدرسة أو القرية، ارتجفت أجسادنا النحيلة، وخفقت قلوبنا الصغيرة، أما البنات فبكين خوفا من المجهول.
الفصول خلت من المعلمين بسبب نفس الاستدعاء المجهول، دون اتفاق اندفع التلاميذ إلى الردهة الطويلة، ثم إلى السلالم.
هبطنا إلى الأسفل، كانت أصواتنا تختلط معا، نصرخ، نتكلم، ننادى بلا معني، لم يصادفنا اى شخص ليمنعنا من الهرج والمرج، والفوضى الطارئة، حين وصلنا إلى ردهة الطابق الأول الوسيعة، تجمعنا هناك، كنا قريبين للمرة الأولى من مكتب الناظر المخيف، لم نر المعلمين أو الفراشين، كان شيئا غريبا، كدنا نخرج من بوابة المدرسة، لولا أنها كانت مغلقة بجنزير حديدى.
يبدو أن أصواتنا الصاخبة، جعلت باب مكتب الناظر ينفتح بغتة، لنشاهد كل المعلمين والمدرسين، وحتى الموظفين الإداريين، يندلقون فجأة إلى الردهة الواسعة، مبتسمين فرحين، وفى أعقابهم يظهر السيد الناظر فنشاهده مبتسما فرحا.
عقدت الدهشة ألسنتنا، ران صمت عميق. سمعناه يقول: أيها الأبطال.. جيشنا البطل عبر الهزيمة إلى النصر منذ دقائق.. انتصرنا على العدو الإسرائيلي.. والراديو أذاع البيان الأول.
أيها الأبطال، لتذهبوا فورا إلى حوش المدرسة فى انتظام. تلاميذ كل فصل معا.
كانت شخصية الناظر قوية، إلى درجة أننا لا نذكر كيف وجدنا أنفسنا فى حوش المدرسة فى صفوف منتظمة، ونحن نسمعه فى الميكروفون. يزف إلينا نبأ اندلاع الحرب، مؤكدا أنها لرد عدوان يونيو ٦٧، وتحرير الأرض وطرد العدو الإسرائيلي، ثم هتف المعلمون بالنصر لمصر إن شاء الله، وقد سمعنا زغرودة طويلة آتية من خارج المدرسة.
سمح لنا الناظر بالخروج، انطلقنا إلى بيوتنا جريا، لم نتشاحن كالعادة، كان شيئا جديدا أن نشاهد حلقات من الأهالي، تتجمع حول راديوهات خشبية كبيرة، يستمعون إلى البيان الأول، الصادر عن القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية، وكان صوت الراديو عاليا:
«هنا القاهرة.. جاءنا الآن البيان التالى من القيادة العامة للقوات المسلحة: قام العدو فى الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر اليوم، بمهاجمة قواتنا فى منطقتى الزعفرانة والسخنة فى خليج السويس، بواسطة عدة تشكيلات من قواته الجوية عندما كانت بعض من زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربى من الخليج، وتقوم قواتنا حاليًا بالتصدى للقوات المغيرة».
توالت البيانات، عبرنا القناة، وحصلنا على إجازة طويلة، هذه المرة قضيناها حول الراديوهات، وأمام شاشة التليفزيون فى مقهى العم أبو زيد.