(كيف يتم إقناع الغصن المكسور أن الريح قد اعتذر...؟) محمود درويش.. لعبة الترويض الخطرة قد بدأت! تبدأ اللعبة فى اللحظة التى يروض فيها القلب، ويجبر العقل للعودة إلى المنطق.
فجأة تهب رياح النفور وتغلى ثورة سوء الاختيار ويسدل الستار على فصل من فصول الحياة التي كان يجب أن يغلق منذ البداية.
أضاعها بالتخصص، نعم بالتخصص ولا جديد فيما يفعل بنفس الحركات التى يفعلها منذ زمن طويل، فهو في البدايات ساحر وللنهايات مُتقن ومحبط! ربما لأسباب لا تذكر سئم منها واستعان بعقله المركون، وتأمل الأمر بحكمة الكون والتفكير فى اعتزال الدنيا مؤقتًا، فأصبح طريقها طريقًا مختصرًا للشيطان، بعد أن تمنى يومًا أن يسير إليها زاحفًا، حاصرها فى أول خانة من خانات المحرمات، بعد أن كانت هى الشيء الوحيد فى –الحب- حلال، أوهم نفسه بأن تركها سوف يعيده للحياة كيوم ولدته أمه ويضمن بالبُعد حُسن الخاتمة.
"أيمن" أصبح أكثر جرأة على النطق بما يفكر فيه! ولكن هذه الليلة كان يكفيه لحظة واحدة يشعر فيها أنه شخص حقيقى ليحقق ما يريد فعله، فينفعل ويثور ويكسر القواعد التى أرثاها والحدود التى تعدت على حريته.. هو الآن مروض خارج السيرك بعيدًا عن تلك الحيوانات الحبيسة يستمتع بزئيره خارج ذلك القفص الحديدي الصدئ القديم. يتمنى ألا يرى الوجوه داخل القفص، ولكن ينظر خارجه حتى تكتمل الرؤية..!
شيء واحد أفسد عليه هذه اللحظة؛ ذلك السؤال المُلحً الذى تردد فى عينيها فمن أين جاءها ذلك الشعور بأن ما يفكر فيه سوف يحدث اليوم...؟
بينه وبين نفسه، بينه وبين أهله وأصحابه، أبدًا لا يتغير، دائمًا يقول أنا البطل، حتى من غير أن يقولها كان يقولها بنظراته، يقولها بضحكاته، حتى ضحاياه تقولها، إنه البطل، القادر، الواثق، المتأكد.. أيكون ما ينتابه الآن من نظراتها لحظة شك؟ ولكن من يكون هو إذا لم يكن البطل؟ لماذا لم تره هى بطلًا؟ وكيف تراه بطلًا بلا بطولة، بلا مجد يذكر، بلا كرامة تصان، بلا جهد وافر من القيم..؟ تلك النظرة التى أدخلته فى نوبة من الغربة وأفرغت الأشياء حوله من التفاؤل.
= قال لـ "أميرة" وهو لا يعنى ما يقول
= أريد أن أكون مثلك..
كانت أكبر منه بعام أو بعامين، كانت هى أطول منه وهو أضعف، ولكنها دائمًا الأعقل والأحكم، روحها ذلك الإحساس المشع منها، وكأنه نور يأتى من لا مكان وبطريقة غير معلومة، روحها تضفي على كلامها ومشيتها وعلى الطريقة التى ترفع أو تخفض بها يدها أو تقضم قضمة صغيرة بأسنانها الأمامية اللؤلؤية، هى نسمة غريبة البراءة والنقاء والرشاقة تجعلك تعتقد وكأنها ليست من أهل الأرض، وكأنها نوع آخر من البشر، ذلك الذي صنع الحلقة الكائنة بينها وبين الملائكة.
ليس لدي ألوان أستطيع بها وصف لون "أميرة"؛ ذلك اللون الذى لا هو أبيض ولا قمحى، ولا هو أوروبى ولا شرقى، ولا هى من أقصى الصعيد ولا السواحل.. هى صباح وشمس وقمر، هى بلاد بعيدة بين البحر المالح والنهر العذب، بصوتها الوقور المجذوب بسحر خفى.
لم يذكر "أيمن" بماذا أجابته، ولا حتى على وجه الدقة إذا كانت قد أجابت، ولكنها كانت مملوءة بأشياء تثير الخيال وتجبرك على حب الاستطلاع الشديد، معها كان لا يحس بنفسه ولا بما يفعل، فهو ذائب تمامًا فى ذلك اللقاء المستمر معها، لا هم له إلا أن يتأملها ويتتبع الحروف التى تخرج من فمها كالمشدود خلفها بمعجزة خارقة، دائمة الحدوث لا تغادره ولا يغادرها لحظة.. ولكن مع الوقت ضمن وجودها وأصبح ما تقدمه عادة باهتة، وسار يعلق على أدق التصرفات والتفاصيل، ترى ماذا كان يمنع أن تستمر هذه الحياة كهذه؟
تلك الزهرة الوديعة وسط غابات الطبائع والنفوس والعلاقات المعقدة التى لا تدرى عنها شيئًا، لكنى يخيل لى أن المشكلة الحقيقة التى عانى منها "أيمن" أنه لا يستطيع الصبر أبدًا على العلاقات لكى تنشأ وتنمو وتتفرع وتزدهر، فدائمًا بإرادتنا الحمقاء وقوانينا التى ابتدعناها، دائمًا نتدخل ونحلل ونفرض سوء النية أو حتى حسنها ونتدخل، وفى تدخلنا نحاول الفرض والكبت والقطع والتعجل وكسر سنن الحياة.
ولكنه في النهاية وجد نفسه خارج القصر، إنسان عادي قد عاد إلى الدنيا العادية، وجد هناك أناسًا يجلسون فى بكاء متصل، إنهم أولئك الذين سبقوه إلى الندم.
العالم أصبح كئيبًا، والأيام أفرطت فى طولها، والليالى بلا منتصف وبلا فجر أو صباح، وانتشرت الشائعة ولا يصدق هو، جاء غريب ليتزوجها والكل يغني ويردد، و"أميرة" فى ثيابها البيضاء الناصعة، وقد حملوا وجهها بأكثر ما يتحمل من ألوان وأصباغ، ولكن بقيت لها نظرة العينين غير مصبوغة، زائغة، تائهة تقول: غبت طويلًا ثم أتيت لتسأل عن حالى، فالحكايات الجميلة تموت مع الوقت والإهمال.
"أميرة" بجوار عريسها الضخم كالحمامة الوديعة، عيناها تبحث عن شيء فى نجوم السماء تفتش فى الخلاص، تتجاذبها الأيدى وتدفعها وتبتسم فى شحوب، ربما كانت تفتش عن "أيمن"، ولكنه قد أُسر داخل ذلك القفص الحديدى يعانى، يتألم، يندم، يراقب بنفسه الإنسان الذى صنعه، وعليه أن يواجهه وجهًا لوجه داخل قفصه المغلق، استسلم أخيرًا للحيوان الذى بداخله، استسلم لقيوده ولخوفه ولمصيره، وأنه كان مخدوعًا، وأنه ليس الأقوى أو الأعظم او المسيطر أو الملك..