راديو الاهرام

د. حاتم عبدالمنعم يكتب: عبقرية الفاروق

10-4-2022 | 16:03

إن شخصية عمر بن الخطاب شخصية متفردة يصعب تكرارها في تاريخ البشرية ويكفي حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (لو كان من بعدي نبيٌّ لكان عمرُ بنُ الخطابِ) ووصفه بالفاروق بديهة؛ لأنه كان شديدًا في محاسبة نفسه وأهله، وكان شديد اللوم على نفسه حتى فيما أحله الله سبحانه وتعالى من نعم الدنيا من طعام وشراب وغيره، ولذلك يؤكد العقاد أن هذا الرجل العظيم أصعب من عرفه من عظماء التاريخ نقدًا، وأكثرهم تمتعًا بمزايا فريدة ومتعددة يصعب توافرها في شخص واحد، وهو بطل من طراز فريد وخاص ويعد رجل كل العصور.
 
والآن والعالم في عصر شاعت فيه القوة الطاغية التي ترى أن القوة والحق نقيضان، فإن عصر عمر بن الخطاب استطاع أن ينشر الإسلام ودولته بالحق والعدل والقوة معًا؛ ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام عن عمر (أُرِيتُ في المَنامِ أنِّي أنْزِعُ بدَلْوِ بَكْرَةٍ علَى قَلِيبٍ، فَجاءَ أبو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا، أوْ ذَنُوبَيْنِ نَزْعًا ضَعِيفًا، واللَّهُ يَغْفِرُ له، ثُمَّ جاءَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فاسْتَحالَتْ غَرْبًا، فَلَمْ أرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ حتَّى رَوِيَ النَّاسُ، وضَرَبُوا بعَطَنٍ) بمعنى أن عمر عبقري متفرد ولا يستطيع أحد أن يصنع مثل صنيعه، وهذا الحديث في حد ذاته يظهر رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام وبصيرته الصائبة للأفراد المحيطين وخصائصهم ومميزاتهم؛ مما يؤدي لحسن اختيار الرجل المناسب في المكان والوقت المناسب، وهذه من مميزات القيادة، مع تهيئة البيئة الصالحة للنبوغ، وهذا ينطبق تمامًا على سيرة الفاروق؛ بمعنى لولا الدعوة المحمدية التي بعثت كوامن العظمة في أمة العرب ما كنا نسمع عن عظمة الفاروق وغيره من رجال هذه المرحلة.
 
فمثلا عمر بن الخطاب كان شخصية قوية النفس والبدن حقًا بالفطرة، وكان أيضًا مفطورًا على العدل والالتزام والانتماء لأهله وقبيلته، فإنه أعلن الحرب على الخمر منذ إسلامه، فأهمّه خطرها قبل أن تحرّم؛ فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: "لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى)، فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ يُنَادِي: أَلَا لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا".
 
وتهيأت كل العوامل بعد ذلك لنبوغ الفاروق وتفوقه وسط عظماء التاريخ، وما كان هذا يحدث إلا بعد إسلامه وتتجلى عظمة الرسول عليه الصلاة والسلام في اختيار الوقت المناسب والمكان المناسب لأصحابه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال من تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال رب اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم أنتم عالة فلا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضربة عنق)، وهنا حكمة اختيار الشخص المناسب في الوقت والمكان المناسب ورغم هذه الصفات الشخصية، لكن عمر كان أيضًا يعرف متى وأين يسخر هذه الصفات لخدمة دينه وعقيدته، وهذا يتضح حينما ولي عمر الولاية وأصبح أمير المؤمنين، فقال بوضوح لمن هابوا شدته (بلغني أن الناس هابوا شدتي وخافوا غلظتي حينما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام معنا ثم في عصر أبي بكر، فقال عمر لقد كنت مع رسول الله عبده وخادمه، وأعتمد على رحمته لثقتي فيه، ومع الصديق لعلمي بلينه وكرمه، ولكني الآن أخشى الشدة تحسب علي، ولكني شديد على من يعاديكم وعلى أهل الظلم، لكن معكم ألين وأرحم، وهنا عبقرية عمر؛ حيث كانت شدته اعتمادًا على رحمة ولينة الرسول عليه الصلاة والسلام ثم الصديق، ولكن عند توليه الإمارة اختلف الأمر وأصبح أكثر حذرًا وتمحيصًا قبل استخدام قوته المعهودة.
 
فهذا رجل يعرف ملكاته وقدراته ومتى تستخدم بلا مراجعة أو تأنٍ، ومتى يستلزم الأمر المراجعة والتأني، ولذلك كان عمر عبقريًا في تكوينه وسماته الشخصية، عبقريًا في سلوكه وفكره عبقريًا في أعماله، فهو متميز في تكوينه وعمله وإنجازاته فهو شخص لا نظير له في كل ما سبق، ولذلك كانت لعمر هيبة لا نظير لها، لقد كان مهيبًا رائع الحضور دائمًا؛ وجاء في حديث صحيح: (أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليهِ وسلَّمَ غزا ، فنذَرَت أمةٌ سوداءُ إن ردَّهُ اللَّهُ سالِمًا أن تضرِبَ عندَهُ بالدُّفِّ ، فرجَع سالِمًا غانِمًا ، فأخبرَتْهُ ، فقال : إن كنتِ فعلتِ فافعَلي وإلَّا فلا فقالت : يا رسولَ اللَّهِ ، قد فعلتُ ، فضربَت ، فدخَلَ أبو بكرٍ وَهي تضرِبُ ، ودخَلَ عُمَرُ وَهي تضرِبُ ، فألقَت الدُّفَّ وجلسَت عليهِ مقعِيَةً ، فقال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ : أنا هاهنا وأبو بكر هاهنا ، وَهؤلاء هاهُنا ، إنِّي لأحسِبُ الشَّيطانَ يفرَقُ منكَ يا عمَرُ).
 
وقوة عمر وهيبته من قوة النفس قبل أن تكون من قوة الجسد، لقد كان عمر طويلا بائن الطول يُرى ماشيًا كأنه راكب، كان صلبًا يصارع الأقوياء تشهد له العيون كما تشهد له القلوب، وكان أعسر ويعمل بكلتا يديه، وكان أصلع خفيف العارضين، ومن فرط حسه كان سريع البكاء وشديد الخشوع، وكان له فراسة عجيبة نادرة يعتمد عليها، فهو رجل متميز وموهوب في نظر جميع من عرفوه، فهو شخص لا يتكرر؛ بل هو نمط وحيد في التاريخ كله لا نظير له، فهو قد بلغ أعلى درجات العدل والرحمة والفطنة والإيمان والغيرة.
 
ويتصف بالفاروق؛ لأنه كان عادلا لجملة أسباب وراثية وشخصية؛ حيث ورث القضاء من قبيلته وآبائه الذين تولى التحكيم في الجاهلية جيلا بعد جيل واعتادوا العدل والإنصاف؛ فهو أي عمر عادل من عادلين وناشئ على العدل ومستقيم بطبعه وتكوينه ووراثته، وكان أبوه الخطاب وجده من أهل الشدة والبأس، وكانت والدته حنتمة بنت هشام بن المغيرة قائد قريش في كل نضال، وكان عادلا بما تعلمه من الرسول عليه الصلاة والسلام ومن الإسلام، وكان عادلا في قبيلته وأسرته ومع أبنائه.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة
خدمــــات
مواقيت الصلاة
اسعار العملات
درجات الحرارة