"إللي بني مصر كان في الأصل حلواني".. مقولة شهيرة تعني جمال مصر.. ولكنها حقيقة بالفعل.. فكان جوهر الصقلي قائد الجيوش الفاطمية وباني القاهرة المعزية بارعًا في صناعة الحلوى، وكان يمارسها منذ كان شابًا صغيرًا في بلده كرواتيا، وعند اندلاع الحرب بين كرواتيا وفينيسيا، تم أسره وبيعه مملوكًا في صقلية، ومنها اكتسب اسم الصقلي.
وبعد سنوات بيع مرة أخرى، وفي هذه المرة اشتراه الخليفة الفاطمي المنصور بالله الذي ألحقه بالجيش فأثبت مهارة فائقة، وظل يترقى في المناصب إلى أن أصبح وزيرًا للخليفة المعز لدين الله وقائدًا للجيوش.
ارتبط في الأذهان تاريخ الفاطميين في مصر بالغنى والازدهار حتى قيل في الأمثال الشعبية "ذهب المعز وسيفه" دليلًا على الثراء والقوة، وبالفعل يتأكد ذلك في كم الاحتفالات الهائل، والمواكب والولائم والأعياد، حتى قيل أن الفاطميين اصطنعوا لكل مناسبة نوعًا مخصوصًا من الحلوى.
ونستطيع أن نجزم بأن معظم مظاهر الاحتفالات بالمواسم والأعياد والتي ما زلنا نحتفل بها إلى يومنا هذا، وإلى حد كبير نفس الطقوس، متوارثة منذ نشأة القاهرة، وكانت البداية بفوانيس رمضان والكنافة والقطايف، ثم المسحراتى.
لدينا العديد من الموروثات الشعبية التي تأصلت في عاداتنا منها المرتبط بشهر رمضان وأخرى بالمواسم والأعياد الدينية، مثل الاحتفال بالإسراء والمعراج والنصف من شعبان والمولد النبوي وعاشوراء وشم النسيم.
وكان الفاطميون يحتفلون أيضًا بليلة الرؤية وغرة رمضان و"سماط" رمضان -وهي موائد الرحمن الآن- وليلة ختم القرآن، وموسم عيد الفطر، والغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العهد، ويسميه أهل مصر خميس العدس.
لم تتغير كثيرًا مظاهر الاحتفال بقدوم شهر رمضان، فبعد مرور مئات السنين، وحتى القرن الـ19 تتشابه مظاهر الاحتفال الذي يبدأ منذ ليلة الرؤية فيخرج أهالي المحروسة إلى المناطق الفضاء البعيدة عن القاهرة لاستطلاع هلال الشهر الكريم، فيخرج موكب هائل يتقدمه المحتسب والمشايخ وفئات متنوعة من الشعب ترافقهم الفرق الموسيقية وحاملو الطبول والدراويش حاملين الأعلام ومعهم بعض من الجنود، ويتجه الجميع من القلعة إلى مجلس القاضي بانتظار التحقق من الرؤية، وابتهاجًا بهذه المناسبة تزدحم الشوارع، ويطوف هذا الموكب في شوارع القاهرة معلنًا عن بدء شهر الصوم.
وكما يتم حاليًا الإعلان رسميًا عن بداية شهر رمضان من خلال بيان دار الإفتاء، فكان في ذلك الزمان يقوم القاضي بإثبات بدء شهر رمضان في وثيقة يودعها في المحكمة الشرعية ويصدر أوامره بإضاءة المساجد ليلا بالقناديل على مدى 30 يومًا، وتعلق المصابيح عند مداخلها وفوق المآذن وهذا المظهر الاحتفالي ما زال حتى الآن.
خلال النهار يقدم بعض الحواة والسحرة وعارضي الثعابين والقرود والفرق التمثيلية، عروضهم للناس كنوع من التسلية، أما بعد الإفطار فيتناول الصائمون قليلًا من الطعام ثم يؤدون صلاة المغرب، ثم يتناولون فطورهم قبل أن يتوجهوا للمساجد لصلاة العشاء والتراويح.
كان المصريون يكثرون من زيارة الأهل والأصدقاء بعد الإفطار، ومنهم من يذهب إلى المقاهي للاستماع إلى روايات السيرة الهلالية وحكايات ألف ليلة وليلة أو لعب الشطرنج، وهناك من كان يقيم حلقات ذكر وتلاوة القرآن الكريم طوال ليالي رمضان إلى أن يمر المسحراتي في شوارع القاهرة معلنا عن موعد السحور، يرافقه طفل يحمل قنديلًا للإضاءة.
أما "سماط" شهر رمضان فهو ما يعرف الآن بمائدة الرحمن، فكان يبدأ من اليوم الرابع لشهر رمضان على مدى 27 يومًا، بالقصر الكبير وهو مقر الخليفة يحضره عدد كبير من عامة الناس والأمراء وكبار الدولة بالتناوب، تقدم على الموائد كافة أنواع الطعام وأجملها ويأخذ كل فرد ما يكفيه ويظل الـ"سماط" ممتدًا حتى العشاء، وفي السحور يُمد "سماط" آخر.
وفي ليلة العيد يمد بقصر الخليفة "سماط" به أشهى المأكولات ويحضره الخليفة والوزراء والقضاة وعامة الناس، وتفرق الدنانير وتوزع الكسوة على المحتاجين والحلوى والفطير، وأيضًا يمد "سماط" كبير عقب صلاة العيد.
ظلت فكرة "سماط" عيد الفطر قائمة يتوارثها الأجيال حتى بعد زوال دولة الفاطميين ولآخر حكم المماليك.
من أشهر الموروثات والتي نتمسك بها إلى الآن عروسة المولد أو العروسة الحلاوة والحصان بمناسبة المولد النبوي الشريف، ولها قصة عجيبة، يروى أن الحاكم بأمر الله حرم على الناس الزواج إلا في يوم المولد النبوي، فأصبح يومًا مميزًا ينتظره الناس، فتقام فيه مئات الأفراح، فكان بائعو الحلوى يجهزون العرائس المصنوعة من السكر المعقود تيمنًا بالزواج، وحظيت بإقبال الناس على شرائها وصارت عادة لا تنقطع وصنع بجوار العروسة الفارس فوق حصانه وطبعًا يرمز إلى العريس وشجاعته.