الأمية الثقافية وباء خطير متفشٍ من أوبئة العصر.. ومكافحة هذا الوباء لا تقل أهمية عن مكافحة كورونا وأمثاله من أوبئة تستهدف الأبدان، فيما تستهدف الأمية عقل الأمة وبنيانها الفكرى.
الأمية أنماط ومراحل
مرَّ تعريف الأمية الأبجدية بعدة مراحل، فقبل الستينيات اشتهر معنى الأمية لدي العامة بأنه عجز المرء عن قراءة اسمه أو التوقيع به، فكان يُدعَي "بصمجيًا" باعتباره مضطرًا لاستخدام البصمة أو الختم بديلًا عن الكتابة لدى تعامله مع الأوراق الرسمية.
ومنذ 1980، أعادت اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم) تعريف الأمية بشكل أوسع بحيث أصبحت عدم المقدرة على القراءة والكتابة، ويومها فاز العراق بجائزة أسرع بلد حقّق محو الأمية في فترة زمنية وجيزة بفضل برامج للأميين في أنحاء البلاد، وفاز بجائزة اليونسكو عام 1982.
الحال اليوم أسوأ من ذي قبل، وقد عادت مشكلة الأمية لتخيم بتداعياتها على أغلب الدول العربية وفي مقدمتها مصر، وهو ما يقف حائلًا ضد أي تقدم منشود، وقد تغير تعريف الأمية اليوم لنصل إلى أمية عدم إتقان الوظيفة والأمية المعلوماتية.
معنى هذا أن مفهوم الأمية انقسم وتشرذم إلى أنماط وأنواع متباينة المدلول؛ فهناك الأمية الأبجدية التي تعني عدم معرفة القراءة والكتابة والإلمام بمبادئ الحساب الأساسية، والأمية الحضارية التي تعني عدم مقدرة المتعلمين على مواكبة معطيات العصر العلمية والتكنولوجية والفكرية والثقافية والتفاعل معها بعقلية دينامية قادرة على فهم المتغيرات الجديدة وتوظيفها بشكل إبداعي فعال يحقق الانسجام والتلاؤم، وتنقسم الأمية الحضارية من حيث المبدأ إلى عدد غير قليل من الأقسام والفروع الرئيسية فتندرج تحت لوائها – الأمية الثقافية – الأمية العلمية – الأمية التكنولوجية – الأمية الفنية – الأمية الجمالية – الأمية الصحية – الأمية العقائدية.
إنها أصناف مختلفة ودرجات ومراحل من الجهل تفشت في المجتمعات وأدت بالتالي لأشكال من الخلل في البنية السوسيولوجية والأخلاقية والوظيفية لها، وهو ما يستدعي انتباهًا من الحكومات لإصلاح هذا الخلل المجتمعي لضمان تحقيق الرخاء والتقدم.
ثقافات ضالة
شاعت في مصر مفاهيم مغلوطة سادت تحت مسميات مختلفة "كالفهلوة والخفة والتفتيح" بمعنى الاستغناء عن التعلم والتدرب والاكتفاء بأسلوب المحاولة والخطأ في التعامل مع الأزمات والمعوقات، وهو أسلوب بدائي لم يعد مجديًا في واقع استثماري لا يعترف سوى بشهادات الخبرة المثقلة ببرامج التدريب والمهارات الفردية الخاصة.
وفي المجتمع المصري لن تعدم أن تجد في كل ركن ومكان أشكالًا من الثقافات المتدنية الباهتة كالسطحية والترخص والتبذل والاستغلال والاستهلاك والعنف، وهي أنواع رغم تباينها وتعددها تنبع من مصدر واحد يقف كعامل رئيسي يتسبب فيها جميعًا هو عامل الفقر، فالتفاوت الاجتماعي والحقد الطبقي يتسببان في إحداث فجوة تربوية وأخلاقية عميقة تنبع منها ثقافات ضالة ضحلة بائسة.
وفي الكتاب الصادر عن مركز دراسات قناة النيل الثقافية تحت عنوان (ثقافة الفقراء/ دراسة في بنية وجذور الثقافة المصرية) كتب جمال الشاعر في مقدمة الكتاب يقول: (.. تشير الدراسات إلى أن 40% من كمبيوترات العالم تقع في أمريكا، بينما واحد من كل 300 إفريقي يمتلكون خط هاتف! في حين يمتلك الشباب والرجال في الدول الإسكندنافية هواتف محمولة بنسبة 100%، ولهذا فإن أربعة أخماس مالكي الهواتف الخلوية على الأرض هم في العالم الغني، وفي بنجلاديش هناك خط هاتف واحد لكل 275 شخصًا، و90% من قرى البلد البالغ عددها 86 ألف قرية ليس لديها أية وسيلة للاتصال! وبالنسبة للإنترنت فقد نمى عدد المستخدمين إلى مليار مستخدم منهم 80% بالدول الغنية، وأقل من 1% في إفريقيا!)..
ويؤكد ياسر القاضي أن مفهوم ثقافة الفقر الذي أطلقه (أوسكار لويس) في دراسته للمجتمع المكسيكي شديد الشبه بالمجتمع المصري، امتاز بخصائص مميزة في أنماط الحياة العائلية والعلاقة مع الآخر وتنشئة الأطفال، إلى جانب سمات محددة كاللامبالاة والاستسلام للواقع والإحباط، وتنهض ثقافة الفقراء على عوامل اقتصادية ونفسية واجتماعية ودينية متشابكة، ويؤدي شظف العيش وضيق الفرص الحياتية لدى فئة المهمشين في النهاية إلى ممارسة العنف بدرجاته التي قد تصل إلى حد الجريمة.
وفي مجتمع كالمجتمع المصري تتآكل فيه الطبقة الوسطى وتتسع الفجوة بين الأثرياء والفقراء، ليظهر نوع آخر من ثقافة الرفاهة والثراء يُدعَى (ثقافة الاستهلاك)، وهو نوع يمثل ضحالة وتسطحًا لدى الفئات المجتمعية القادرة، وقد تحدث (روجر روزنبلات) في مقدمة كتابه (ثقافة الاستهلاك/ الاستهلاك والحضارة والسعي وراء السعادة) عن عدة مفاهيم حديثة سادت مجتمعات الرفاهة والاستهلاك كاستبدال مفهوم التواجد: (to be or not to be) الشكسبيري إلى مفهوم الامتلاك: (to have or not to have) والذي بات هو جوهر النزعة الاستهلاكية لدى المجتمع الرأسمالي..
ولهذا باتت 90% من قوة العمل في أمريكا تقوم على الأعمال التجارية والخدمات المنتجة للسلع الاستهلاكية، والكثير من هذه السلع لا يكترث للجانب الأخلاقي في التجارة؛ بل تصب اهتمامها نحو إشباع حاجة المستهلكين، بل ودفعهم دفعًا لشراء أشياء لا حاجة لهم بها بمختلف طرق الإغراء الإعلاني والخصومات والمزايا.
abdelsala[email protected]