ما إن يشرع المؤرخون الثقات النزيهون في التأريخ الأمين لمقدمات وتطورات ومآلات الحرب الروسية الأوكرانية، سنفاجأ بكم لا حصر له من الحقائق والأكاذيب والحيل غير النظيفة المحيطة بها، والدور الطليعي والمؤثر الذي لعبته العديد من وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية في تنفيذها بالتنسيق الكامل مع حكومات دولها، ولم تكن القواعد والأصول المهنية هي الحاكمة للتغطية الإعلامية لهذه الحرب، بقدر ما كانت أداة منفذة لأجندة سياسية محضة تدوس بأحذيتها الغليظة على معايير المهنة النبيلة.
فقد توافرت تحت أيدينا وأمام أنظارنا شواهد ودلائل تؤكد أن الإعلام الأمريكي والغربي كان رأس حربة وظفت ببراعة، منذ اللحظة الأولى، لخدمة التوجهات والمواقف السياسية لواشنطن وحلفائها في القارة العجوز، وتسويق أفكار"شيطنة روسيا" وبإلحاح لا تخطئه العين المتابعة، وأن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، "مجرم حرب" ويتعين محاكمته أمام محكمة دولية لجرائم الحرب، وأنه ـ بوتين ـ يُشكل خطرًا كبيرًا ورهيبًا على السلم والأمن الدوليين، ولابد من استئصاله، وكلما تم ذلك سريعًا كان أفضل، لكي تنعم البشرية بالسكينة والاستقرار.
وأصبح بوتين نسخة القرن الحادي والعشرين من الزعيم النازي "أدولف هتلر"، وفي المقابل جرى تصوير وتلميع نظيره الأوكراني زيلينسكي، كبطل مغوار جسور، ورافع لواء الدفاع عن الحرية والديمقراطية والتمرد على بيت الطاعة الروسي القاسي والظالم.
وبعدما كان الأمريكيون والأوروبيون ناقدين وناقمين بحدة على النهج الإعلامي لوزير الدعاية النازي جوبلز، ومحذرين من مساوئه وخطورته لبراعته في عرض الكذب على أنه الحقيقة في أجلى وأنصع صورها، إذا بهم يطبقونه بأريحية ملحوظة دون وخز ضمير ولا حسرة وندم على خداع الرأي العام المحلي والعالمي، وغياب النزاهة والأمانة في استعراض مختلف وجهات النظر دون انحياز مسبق، على الأقل في التغطية الخبرية، بينما يُترك المجال على اتساعه لكتاب الرأي والأعمدة لتبني ما يرونه ويقتنعون به من مواقف وإنحيازات، فهم في البداية والنهاية مَن سيتحمل مسئولية كلماتهم وسطورهم إما سلبًا أو إيجابًا.
وكنموذج تطبيقي وعملي على ما سلف ضعوا تحت مجهر الفحص الدقيق ما نشر بالصحافة الأمريكية والأوروبية والمواقع الإلكترونية التابعة لها، حتى الآن، عن العثور على جثث مدنيين في مدينة "بوتشا" الواقعة شمال غربي العاصمة الأوكرانية "كييف"، عقب انسحاب القوات الروسية منها، وتصوير الواقعة على أنها مذبحة بشعة نفذها الجنود الروس، وجريمة إبادة جماعية يتحتم على العالم الحر الانتفاض لمعاقبة مرتكبيها الروس الذين سيلاحقهم الخزي والعار أينما حلوا، وألا يتحصن بالصمت المريب.
بتحليل محتوى الصحف الأمريكية والأوروبية فإنها وجهت أصابع الاتهام الفوري ناحية القوات الروسية قبل إجراء تحقيقات محايدة وقاطعة عما تعرض له المدنيون الأوكرانيون، وبيان مَن الجاني الذي يجب معاقبته بدون رحمة جزاء ما فعله ضد أناس لا جريرة ولا ذنب لهم في حرب غير متكافئة اندلعت داخل أراضي بلادهم، وأن تأخذ العدالة الناجزة مجراها الطبيعي، وليس تنصيب أنفسنا قضاة وجلادين.
غير أن مراسلي الصحافة الغربية والأمريكية وضيوفهم الكرام من المعلقين والمحللين سارعوا بإصدار حكم إدانة نهائي غير قابل للاستئناف والمراجعة ضد روسيا وبوتين، ودعوا لتشكيل محكمة تتولى ملف جريمة "بوتشا"، وسيكون معلومًا بطبيعة الحال ما سيصدر عنها من أحكام.
هنا، فإن ما يشغلني ليس الدفاع عن هذا أو ذاك في الحرب الروسية الأوكرانية ولا التماس عذر لمرتكبي جريمة حرب نكراء، لأنه ببساطة شديدة لا يوجد عذر لها، لكن شاغلي الحقيقي والأساسي أن الأوروبيين والأمريكيين الذين طالما أعطوا دروسًا ومواعظ للآخرين عن الالتزام بالمهنية في العمل الصحفي والإعلامي على وجه العموم، وتحري الدقة والنزاهة، والبعد عن التضليل والمعلومات المزيفة والمشكوك في صحتها، وألا يكون الإعلام أداة رخوة طيعة في يد السلطة توجهها حيثما شاءت، يتجاهلون وعن سبق إصرار كل ذلك بتقديمهم "إعلام جوبلز" بشكل فج وقبيح.
ولم يكتفوا بهذا، لكنهم أقاموا حائط مبكي يصرخون عبره حسرة وألمًا على ترك العالم الحر أوكرانيا تخوض هذه المعركة الحاسمة دون مؤازرة واجبة تحمي المدنيين فيها من "البرابرة الروس"، ويطالبون بقطع رؤوس بوتين وأركان نظامه، ويحرضون عليهم مساء صباح، ويبحثون عن حزمة جديدة من العقوبات لطرح روسيا أرضًا وتقليم أظافرها، وعدم مراعاة منطقها وحجتها في حقها المشروع في الذود عن أمنها القومي في مواجهة ما يحيق بها من أخطار وتهديدات.
والمبكي حقا أنه على القائمين على وسائل الإعلام الأمريكية والغربية قبل قصف الجبهة الأخرى، روسيا، أن يجيبوا بشجاعة عن سؤال الساعة، وهو: هل كنا منصفين وعادلين وأمناء في تغطيتنا للحرب الروسية الأوكرانية، ويليه هل نؤمن بالمبدأ ككل أم أنه تتم تجزئته وفقًا للطلب والاشتهاء، فإن كانوا فعلا ممتعضين وغاضبين من مذبحة "بوتشا"، ويبكون بحرقة على ضحاياها من المدنيين، فهل لديهم الجرأة لتطبيقه في الحالة الفلسطينية وفي الحالتين الأفغانية والعراقية، أثناء الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق؟
إن أشباح "بوتشا" لن تلاحق فقط السفاحين والقتلة الذين أزهقوا أرواح عشرات المدنيين، لكنها ستكون أيضًا بالمرصاد لممثلي الإعلام الأمريكي والأوروبي عقابًا على دورهم غير المشرف والمخزي بترويج الأباطيل والتضليل في حدث تاريخي سيكون له عواقبه وتأثيراته العميقة على عالمنا المعاصر لعقود قادمة.