البعض منا يعتقد أن المهنة تقاس بمدى علوها أو دنوها! أي هناك منصب رفيع ومنصب آخر متدني! ولا يعلمون بأن المهنة أولًا وأخيرًا رسالة ومسئولية ملقاة على عاتق صاحبها وليس منصبًا شرفيًا شخصيًا لصاحبه، فالله خلقنا لتعمير الأرض وخلقنا طبقات، وقال تعالى: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ"، "وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا"، فالعمل يُقاس بمدى تأثيره الإيجابي على الناس قبل صاحبه، فلا يوجد منصب رفيع ومنصب متدن كما يعتقد البعض بل على العكس قد يكون العمل الذي يصفه البعض بالمتدني أعظم عند الله وعلى البشرية من العمل الرفيع المستوى، فهناك حكمة تقول :"عندما يغيب المدير شهر لا نشعر بغيابه لكن لو غاب عامل النظافة يومين افتقدناه"، فقيمة الناس بما يقدمونه من خير للبشرية ولا يقاس بالمنصب ودرجته!
ولا نذهب لبعيد فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم راعي غنم، وفي شبابه عمل بالتجارة وهو خير خلق الله وعلم البشرية دروسًا في العلم والأخلاق، بل هو إنارة الله على الأرض، وكان نوح عليه السلام نجارًا وبنى سفينة نوح التي حملت البشرية، كما كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعمل بالتجارة قبل توليه الخلافة، والزبير بن العوام كان خياطًا، وسلمان الفارسي حلاقًا، كما أن الله سبحانه وتعالى له حكمة في تقسيم البشرية لدرجات، فقال تعالى: "نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا"؛ أي ليختبر من يطيع الله ورسوله في عمله ومن يتقنه ومن حمل الأمانة كما ينبغي أن تُحمل، من استغل منصبه في نصرة المستضعفين وجلب حقوق الضعفاء، ومن استغله في نشر الفساد، فالكل سواء لا فرق بين شخص وآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح، فالله منح كلًا منا موهبة ليس لذاته بل لينفع بها البشرية، فالله خلقنا طبقات ومنح كلًا منا موهبة لحكمة وليس عبثًا، وإن لم يستغلها صاحبها في النفع العام نزعها الله منه، والنعمة التي لم يُحسن صاحبها استخدامها انقلبت لنقمة، والمتمعن في المجتمعات المتقدمة والنامية سيجد أن سبب تقدم المجتمعات هو وضع كل شخص في المكان الذي يناسب قدراته أي وضع قدراته في المكان والعمل الصحيح، فإذا حاكمت سمكة على قدرتها على التسلق ستعيش طول عمرها تعتقد أنها غبية، وإذا حكمت على قرد قدرته على العوم سيعتقد أنه غبي! كما أن التكافؤ في الفرص وتوظيف كل شخص حسب قدراته سوف يزيل الغل والحقد من النفوس، لأنه التكافؤ سوف يُبنى على العدل والمساواة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى)، فما يفرق عمل شخص عن آخر التقوى، أن يتقي الله في عمله، ويراعي ضميره، وكما قال رسول الله: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، فالإسلام نادى بالمساواة بين الناس قبل أن تنص عليها مبادئ حقوق الإنسان كما أن المساواة كانت أيضًا في تطبيق الشرع والعقاب.
فلا تستهين بعملك أيا كانت مكانتك ومنزلتك فيقاس عملك بقدر تأثيره الإيجابي على الأمة فلا تدري لعل عملك الذي تراه صغيرًا عند الله كبيرًا ولا تدري لعل عملك الذي تراه متدنيًا يرفع البشرية بأجمعها، فلا تستهين بعملك طالما يخفف العبء عن إنسان آخر، ولا تقلل من قدرك حتى ولو كان عملك إدخال السرور على قلب إنسان.
Email: [email protected]