هناك كلمات تثير فى نفوسنا كمصريين الكثير من الذكريات والتقاليد الجميلة، والتى تنفرد بها مصر عن غيرها من الدول الإسلامية، فالأزهر والحسين وخان الخليلى وبين القصرين وشارع المعز، كلمات وأماكن ترتبط ارتباطا وثيقا بجمال وبهاء شهر رمضان الكريم.
وهنا نتساءل لماذا فى مصر فقط ؟!! لو تعمقنا فى صفحات التاريخ لوجدنا أن كثيرًا من موروثات المصريين الشعبية والتى تأصلت فى عادتهم، مرتبطة بشهر رمضان منذ نشأة القاهرة مع قدوم الفاطميين بر مصر.
بعد مرور ثلاث سنوات من وضع القائد جوهر الصقلى اللبنة الأولى لتأسيس مدينة القاهرة فى 17 شعبان 358 هجرية – 5 يوليو 696م، والتى سميت حينها بالمنصورية نسبة للخليفة منصور والد المعز لدين الله، كان قد انتهى من بناء القصر الكبير وعرف بالقصر الشرقى ليقيم به الخليفة المعز لدين الله الذى وصل إلى مصر فى 7 رمضان 362 هجرية -11 يونيو 972م ودخل المدينة الجديدة، وأسماها "القاهرة" وقيل إنه تيمنا بكوكب القاهر المعروف بكوكب المريخ.
استقبل الخليفة باحتفالات لم تشهدها مصر من قبل أعدت فى القاهرة والفسطاط، ولكنه لم يدخل الفسطاط وتوجه مباشرة إلى القاهرة ومنذ ذلك اليوم أصبحت تلك الاحتفالات تمثل عادات وتقاليد المصريين احتفالا بشهر رمضان إلى يومنا هذا، حيث تصادف وصول المعز فى هذا الشهر.
تمثلت مظاهر الابتهاج بقدوم الخليفة فى إعداد القناديل "الفوانيس" حيث كان وصوله ليلا، وأصبحت فيما بعد فوانيس رمضان، وتضمن الاحتفال مواكب لحملة الرايات والأعلام ونشاهد مثلها فى احتفالات الطرق الصوفية، وشملت أيضا تقديم أصناف مختلفة من الحلوى ابتهاجا بوصول الخليفة ومنها الجديدة على المصريين مثل الكنافة والقطائف بخلاف المشروبات المتنوعة.
وفيما بعد ارتبط المسحراتى بشهر رمضان، يروى أن الحاكم بأمر الله أمر جنوده بأن يمروا على البيوت ويدقوا على الأبواب لإيقاظ النائمين، ومع مرور الأيام تم تعيين رجل مخصوص للقيام بهذه المهمة وكان ينادى "يا أهل الله قوموا تسحروا" ويدق بعصا على البيوت وتطورت مع الوقت إلى طبلة يدق عليها دقات منتظمة.
أقيم القصر الكبير أو الشرقى وفق ما ذكره المقريزى على مساحة 70 فدانا، له تسعة أبواب وفقا للأغراض والمناسبات فمثلا باب العيد يخرج منه الخليفة لصلاة العيدين، وباب الذهب المطلى بالذهب والمؤدى إلى غرفة العرش، وباب الزهومة وتعنى رائحة الطعام وكان مخصصا لإطعام الفقراء خلال شهر رمضان، وباب الزمرد، باب الشوك، باب تربة الزعفران، باب الديلم وباب الريح.
ضم القصر العديد من الخزائن منها للسلاح والجواهر و42 خزانة للكتب تضم مليونًا و600 ألف كتاب فى مختلف العلوم والآداب.
فى الجهة المقابلة للقصر الشرقى بنى الصقلى قصرا آخر للخليفة العزيز بالله لكنه أصغر بكثير عرف بالقصر الغربى، عرف الميدان الفاصل بينهما بميدان بين القصرين وكان يسع 10 آلاف جندى بكامل أسلحتهم وتقام به الاحتفالات والعروض العسكرية.
ظلت تلك المنطقة قاصرة على الخلفاء ورجال الدولة حتى إنه تم حفر نفق بين القصرين يستخدمه الخليفة فقط، فلم يكن مسموحا للعامة دخول هذه المنطقة.
وبعد مجيء صلاح الدين الأيوبى اتخذ من القصر الشرقى مركزا للحكم وتغير اسمه إلى دار الملك إلى أن تم بناء قلعة الجبل "قلعة صلاح الدين" التى استمرت مركزا للحكم حتى بناء قصر عابدين فى عهد الخديو إسماعيل.
فأصبح القصر الكبير مهملا ومهجورا إلى أن اندثر، وكان يمتد تقريبا من المشهد الحسينى إلى الجامع الأقمر، ويوجد على جزء من أرضه قبة السلطان الصالح نجم الدين أيوب وبقايا المدرسة الظاهرية ومتحف النسيج.
أما القصر الغربى وقد تلاشى أيضا وكان يقع على المساحة التى يشغلها الآن سوق النحاسين وقبة الملك المنصور قلاوون وما جاورهما.
بعد انتقال صلاح الدين إلى مقره الجديد بالقلعة، بدأ الطابع التجارى يغلب على منطقة بين القصرين فكانت أكبر أسواق الدنيا، فيها حوالى 12 ألف دكان، لتجارة الأقمشة والسجاجيد والعطارة والصاغة، وتبدأ الأسواق من باب الفتوح حيث تباع اللحوم والخضراوات والتى اقتصرت الآن على سوق الليمون، وغيرها من الأسواق الشهيرة مثل الشماعين والدجاجين لبيع الطيور والعصافير وسوق النحاسين.
"بين القصرين" أول ما تم تعميرة بالقاهرة فبعد القصر الكبير كان بناء الجامع الأزهر الشريف، وكان محظورا على العامة دخولها.
والمنطقة ضمن شارع قصبة القاهرة "شارع المعز" الذى يمتد من باب الفتوح شمالا وحتى باب زويلة جنوبا، وكان هذا الشارع لا يسير فيه راكبا على فرسه سوى الخليفة فقط، وما عداه يسير راجلا، ولا يمكن لأى شخص غريب الدخول من أبواب القاهرة إلا بإذن لهذا أطلق عليها "القاهرة المحروسة".
وكان يمر به موكب الخليفة وموكب المحمل وكسوة الكعبة وتقام فيه احتفالات رمضان ودخول السنة الهجرية.
ظلت منطقة بين القصرين محتفظة بهويتها الفاطمية وعلاقتها بشهر رمضان المعظم ليومنا هذا و مزارًا رمضانيًا متميزًا.