على مدى حلقتين؛ تحدثنا فيهما عن الأسف؛ قيمة وقامة؛ أستطيع أن أؤكد أنه بمثابة فريضة غائبة؛ يتمنى عدد لا بأس به عودتها للوجود مرة أخرى؛ لاسيما أن الفطرة السليمة كما وضحنا في الجزء الأول تحض عليه.
لكن بعد الفطرة تأتي أمور أخرى؛ مثل التنشئة؛ التي تربي النفس على سلوكيات؛ تارة محبوبة؛ وأخرى مكروهة؛ إلا أن الثابت في الحقيقة؛ وجود بعض السلوكيات المرفوضة مثل التعالي والمكابرة؛ وأحيانًا الإصرار على الخطأ والتمادي فيه.
العلاقات بين الناس يحددها الناس؛ وليس الدولة بقوتها السلطوية؛ التي تتدخل لفرض النظام ليسود القانون بقوته؛ فيثاب الملتزم؛ ويٌعاقب المخطئ؛ كل ذلك جيد؛ ولكن الأساس في التعاملات مرتهن بقناعات الناس.
فمن الصعب إقناع شخص بفضيلة الأسف؛ وقد نشأ في بيئة تحض على العنف والكراهية؛ والعكس بكل تأكيد صحيح تمامًا؛ وقد رأينا كيف يبني الأب شخصية الأبناء؛ مشاركة مع المدرس في الفصل؛ كلاهما عنصري التنشئة؛ لأنهما القدوة والنموذج؛ فكلما كانت القدوة صالحة؛ والنموذج ملهمًا؛ شاهدنا جيلًا مثمرًا.
ومما لا شك فيه أن الأمر يرتبط بالدين بشكل وثيق؛ فكل الأديان السماوية جاءت لتنشر السلام والمحبة والألفة بين الناس؛ ولنا في رٌسل الله سبحانه وتعالى كل العبر المفيدة؛ فهم خير النماذج الملهمة.
وذلك يعني بالتبعية الاقتداء بهم؛ وبناء عليه فإن صحيح الدين يكون باتباع تعاليمه؛ لأن الدين هو المعاملة؛ والمعاملة الحسنة هي الغاية؛ ووسائلها كثيرة؛ أهمها نشر ثقافة الأسف بكل تأكيد؛ لأن الأسف معيار لسمو النفس وتواضعها.
قد تكون الدراما لاعبًا رئيسًا في هذا السياق؛ لتأثيرها الكبير على المشاهدين؛ فكم من نجوم أثروا الحياة الاجتماعية بأعمال رائعة؛ ما زالت راسخة في وجدان الناس رغم مرور سنوات كثيرة عليها؛ من خلال أداء راقٍ يجسد كل معاني التسامح والتواضع؛ واحترام الناس.
وأنتقل لجزء آخر أراه مهمًا للغاية؛ يدور حول الأشخاص الاعتبارية؛ يحضرني لقاء لرجل الأعمال الراحل محمود العربي عليه رحمة الله ورضوانه؛ وهو يتحدث عن علاقته بشركاء النجاح؛ هكذا وصف العاملين بشركاته؛ وهو يراهم رفقاء العمل؛ ولم أشعر طوال حديثه سوى بحبه لهم؛ ولم يدع فرصة إلا وعبر من خلالها عن تقديره وامتنانه لشركائه.
وفي الحقيقة؛ كان اللقاء درسًا مهمًا للغاية في كيفية تعامل أرباب العمل مع العمال؛ من خلال التواضع ومن ثم التسامح؛ وهو ما جعل الرجل من أنجح رجال الأعمال. وجعله نموذجًا متفردًا.
ساعات قليلة ويبدأ شهر رمضان المبارك؛ شهر الفضائل والخيرات؛ في هذا الشهر الكريم نصوم؛ ليس فقط عن الطعام ولكن عن الخطأ؛ شهر نهذب فيه النفوس؛ نعلي فيه قيم الرحمات والتسامح.
شهر ننتظره كل عام لنتقرب من الله بصالح الأعمال؛ وأصلحها أن نتعامل بالقيم الإنسانية النبيلة وما أكثرها؛ وإذا كنت تستطيع أن تهذب من نفسك لتقومها؛ حتى يكتمل صومك؛ تضرعًا لله ليقبله؛ فعليك أن تكون كذلك بقية العام؛ وليس في شهر رمضان فقط.
اللهم أجعلها أيام خير ورخاء على وطننا الحبيب وعلى أهله وناسه الطيبين؛ وكل عام ومصرنا بخير.
[email protected]