راديو الاهرام

مهدي مصطفى يكتب: رسالة من سيتا هاكوبيان ومحمد منير

30-3-2022 | 13:40
الأهرام العربي نقلاً عن

هكذا تكلم فضل خلف جبر فى منتصف الثمانينيات، لعله الآن ينسى فى غربته الأمريكية، ولعله يعطى أذنيه للشاعر الأمريكى والت ويتمان، بدلا من سيتا هاكوبيان ، ولعلى تشاغلت غصبا عن محمد منير، ذلك الجنوبى الذى حفر مجرى عميقا بين ثلاثة أجيال على الأقل.

قال فضل فى المساء البعيد: الغناء روح الإنسان السرية، بل روح كل أمة حية، وكان كذلك لكل أمة مندثرة، بل هو روح كل كائن حي، من طيور وحيوانات ودواب، وما غناء البجعة إلا أيقونة للحياة والموت.

هامسا كعادته، مدخنا سيجارته ماركة سومر العراقية: تصدح الحناجر حين تنفرد بصاحبها، وما من إنسان لم ينفرد بذاته، المسافر والمقيم، وحيثما يجد نفسه غريبا، يصرخ الصوت، يعبر عن صاحبه، كلما كان الصوت لامعا كالجواهر يتجرأ صاحبه، ويصدح به بين الناس، وطالما حدثنا التاريخ عن مغنيات ومغنين، ولدوا بعد وفاة آبائهم.

كانت الحرب العراقية - الإيرانية تكتب الأغانى الحماسية، بينما فضل لا يسمع، قال هامسا: من هذا الضجيج أريدك أن تسمع أغنية: «احنه مشينه للحرب» وكفى.

قلت: مع تنوع الألحان والأصوات، يبقى المزاج الشخصى حاكما، وكما يقول المثل الشعبى المصرى يا فضل «كل فولة ولها كيال»، فإن كل مطرب له كيال.

راح فضل يدندن بصوت خافت: «كل لحظة أمر عليك بلجن أشوفك.. لو شجوا إيدى بليط لا تظن أعوفك.. منك يالاسمر كلبى تفطّر..تسلب أرواح الناس لمن تمر مر».

«بلجن أشوفك» يمكن أشوفك. بليط: بلطة، أعوفك: أتركك، لمن: لما.

فضل خلف جبر، شاعر عراقي ثمانينى خافت النبرات، يكتب كأنه جراح يفتش عن شعيرات دموية معطوبة، يحاول أن يعيدها إلى المسار الذى كان.

كان يواصل دندنته الخافتة، أصغيت له دون أن ينتبه، ضبطته يغني، ابتسم فى خجل، كأنه كان يرتكب جريمة.

- لمن تغنى يا فضل خلف جبر؟ قلت ذلك موقعا على وزن: فعو فعو فعو، قال:

- هل تعرف سيتا هاكوبيان، المغنية العراقية الأرمينية البصراوية، ونسميها فيروز العراق، إنها روح طائر اللقلق العراقى البصراوي.

تبسمت ماكرا.

مسكين فضل لا يعرف أن سيتا هاكوبيان، وأغنيتها «منك يا الاسمر» تتبادل المقاعد مع صوت المغنى الصاعد محمد منير، ذلك الشاب القادم من أعماق الحضارة المصرية.

كان فضل يواصل كلاما صوفيا عن سيتا هاكوبيان، ومن عاداته أنه قليل الكلام، هذه المرة، كان مثل بركان ينتظر انفجارا فى لحظة غامضة، لم أشأ أن أقاطعه، تركته غارقا فى عالمه، لكننى تكلمت أخيرا، وقلت:

 - هل تعرف الشاب المصرى الأسمر محمد منير، الآتى من أعماق غرين النيل؟ كان ذلك فى منتصف الثمانينيات، قال:

- سمعت بعض أغانيه على ألسنة المصريين العاملين فى العراق. أظن «الليلة يا سمره»، و«شبابيك»، بالفعل يختلف عن الطرب السائد، تشعر بأنه من شجن العراق الجنوبى ومن البصرة تحديدا.
قلت:
- خذا هذا الألبوم، وغدا تسمعه يا فضل بإمعان، وستعرف أى صوت قادم من أعماق الناس، فهو ابن أحمد منيب، روح الصعيد المصرى الهادرة، وعلى لسانه تجرى كلمات، ما هى بكلمات، لا تأتى إلا من الشاعر عبدالرحيم منصور، والشاعر مجدى نجيب، والعم الكبير فؤاد حداد.

فى اليوم التالى صار فضل مغرما بمحمد منير، صار هناك شريك جديد فى قلب فضل، يزاحم سيتا هاكوبيان.

عادة ما تعشق النخبة محمد عبد الوهاب، وفيروز، والرحبانية، وست الكل السيدة أم كلثوم، وفريد الأطرش، بينما يعشق الجميع سيد درويش، ويحترمون رياض السنباطي، ويذهبون بعيدا مع بليغ حمدي، ويغرقون فى الحنين مع ناظم الغزالي، ويعيشون عصر عبد الحليم حافظ، وحليم جوهرة الأرواح العاشقة المعذبة، بعض البنات المراهقات قتلن أنفسهن فى لحظة مغادرته فى 30 مارس 1977، كان حليم زمنا فريدا لا يتكرر، قد يتشابه مع المغنى الأمريكى ألفيس بريسلي.

بينما” فولة” سيتا هاكوبيان ومحمد منير رسالة سرية، يعرفها الذين عبروا على جسر غريب.

وفضل فى غربته الأمريكية، وأنا هنا دون رفاق الطريق القدامى.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: