هل فكرت يومًا في موقع سفينة نوح أين تقبع الآن، هل بحثت عن معنى النجاة وسط طوفان غير مرئي إلا لقائد السفينة، هل يمكن العطاء يخرج من رحم المعاناة؟
كنت أبحث عن إجابات هذه الأسئلة وسط أخبار الأزمات الاقتصادية وآثار الحروب حين قالت مذيعة الأخبار وردنا النبأ التالي: ظهرت اليوم "الفلك"، تساءلت هل هي تلك التي بناها سيدنا نوح عليه السلام ثاني الأنبياء بعد سيدنا آدم النبي الذي عاش ٩٥٠ سنة يدعو قومه، وقصته الخالدة التي وردت في كافة الكتب السماوية..
فاستكملت الخبر والذي تضمن الإعلان عن موقع "الفلك" في محافظة الغربية، فزادت حيرتي حتى وصلت لتفاصيل الخبر والمتضمن أن "الفلك" هو الاسم الذي أطلقته مطرانية طنطا على المشروع العظيم اسمًا وشكلًا ومضمونًا لمركز متكامل يخدم ملائكة "متلازمة داون" من ذوي الاحتياجات الخاصة، وفي قلب قرية "إكوة الحصة" في مدينة كفر الزيات، مستلهمًا اسم السفينة التي أوحى الله بصنعها لسيدنا نوح عليه السلام في قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}.
فوجدتني وسط مشاهد إنسانية أخرجتني من دائرة الحسابات؛ لأعيش تفاصيل افتتاح مشروع "الفلك" وما يحمله من رسائل نحتاج إليها بعيدًا عن تعقيدات السياسة والاقتصاد، أولها ما يؤكد أن الجمهورية الجديدة تخصنا جميعًا وليست شعارًا، بل هي حياة ومشروعات على أرض الواقع من الممكن أن نساهم فيها وتقدم لنا ولأهلنا الحلم الذي نتمناه، ومنها "الفلك" الذي تم تدشينه اليوم، برسائل رمزية قوية بحضور قداسة البابا تواضروس الثاني بطريرك الكرازة المرقسية ووزراء الأوقاف والهجرة والتضامن على أرض محافظة الغربية، داخل قرية في مدينة كفر الزيات، ما يؤكد أن تضافر الجهود دومًا يؤدي لأفضل النتائج.
اللافت أن معاني تلك الرسالة كانت قد ظهرت أيضًا في مبادرة رئاسية أطلقها الرئيس السيسي في ختام ٢٠١٩، وكلف بها وزارة الهجرة وشئون المصريين بالخارج باسم "مراكب النجاة"، تطوف بـ١٤ محافظة من المصريين للهجرة غير الشرعية، ومن بينهم الغربية التي تستضيف الفلك اليوم، وتحمل بين دفتيها التوعية وفرص التدريب والتنمية والفرص البديلة الآمنة لشباب وأسر هذه المحافظات، بالتوازي مع “حياة كريمة” التي تتوالى آثارها لتغيير جوهر حياة المواطنين في القرى الأكثر احتياجًا.
وإذا كان مشروع اليوم هو فيض من نور لزاوية إنسانية مختلفة تتعلق برعاية أبطال متلازمة داون وما تحمله رسالة خروج المشروع بصورة متكاملة ومبدعة بجهود "الأنبا بولا" أسقف مطرانية طنطا وبكل الدعم من الكنيسة المصرية ومحافظة الغربية ورسائل دور المؤسسات الدينية التنموي والإنساني بجانب الروحي والخدمي، ورسالة أن الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة، بات واقعًا على الأرض نراه اليوم في صورة مجمع عملاق بني على مساحة 6300 متر يقدم خدمة مجانية لجميع أبناء الوطن بلا تمييز، لأبطال متلازمة داون بمواصفات عالمية على هيئة فلك نوح ويشمل المبنى الأول جميع التجهيزات التي تعمل على تنمية جميع الحواس والعضلات والأعصاب لأبطال متلازمة داون، بالإضافة إلى دورين للسكن على مستوى فندقي يشمل ثماني شقق إلى جانب مبنى ثاني جار إنشاؤه على ثلاثة أدوار سكنية؛ لإتاحة فرص عمل لأهل القرية، بالإضافة لمشاركة المقيمين والمترددين من متلازمة داون بما يناسبهم من أعمال فضلا عن حدائق وملاعب مفتوحة، ويضم مبنيين الأول مساحته ١٤٧٣ مترًا مربعًا، والثاني مساحته ١٠٥٠ مترًا مربعًا، بخلاف المساحات الخضراء والصوبات الزراعية والملاعب المفتوحة للمستفيدين من خدمات المشروع..
هذه التفاصيل والحضور والموقع والشعار إنما يؤكدوا رسالة واحدة، أن الوطن إنما هو سفينة النجاة لنا جميعًا، وأنَّ الوطن بجميع أبنائه، وبتعاونهم وتكافلهم يحيا ويقوى ويتقدَّم ويعلو ويستمر، وهو الدرس نفسه الذي حملته لنا السُنة المطهرة فيما رواه الإمام البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ القائمِ على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا"...
الخلاصة علينا أن نتعلم جميعًا أن الوطن بجميع مَن فيه عبارة عن سفينة واحدة، وهذه السفينة تصل إلى غايتها ومبتغاها سالمة غانمة ليس بالتناحر والتسفيه من كل إنجاز وإحباط كل مجتهد، بل بفضل تعاون أبنائها على العمل والاجتهاد والتكامل والبر والخير وصنع المعروف فإن لم تستطع أن تشارك، على أقل تقدير فكف أذاك عن الآخرين.