بعد الحرب العالمية الثانية وفى عام 1944 عقدت اتفاقية "بريتون" وفيها تعهدت أمريكا بأنها تمتلك غطاء من الذهب يوازي ما تطرحه من دولارات وتنص الاتفاقية على أن من يسلم أمريكا 35 دولارًا تسلمه أمريكا أوقية ذهب؛ أي أن أمريكا تضمن الدولار أمام العالم باعتباره عملة دولية لها رصيدها من الذهب.
وبهذا أصبح الدولار عملة عالمية يحق لأي شخص في أي مكان باستبداله من الذهب، وأصبحت أمريكا القوة الاقتصادية الأولى في العالم وعسكريًا خرجت أمريكا من الحرب العالمية بأقل الخسائر مقارنة بجميع الدول الأخرى التي استنزفت الحرب مواردها لطول الحرب والخسائر الكبيرة.
ورغم ذلك ضربت أمريكا اليابان بالقنابل النووية بلا مبرر، سوى إعلان تفوقها العسكري وإرهاب الجميع بأنها قادرة على التدمير والإبادة، برغم قسوة وتداعيات الضربة النووية التي تؤكد غطرسة القوة وغياب الإنسانية في أبسط معانيها.
ورغم هذه الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والسياسية أعلن الرئيس الأمريكي نيكسون عام 1971 تخلي أمريكا عن مضمون اتفاقية "بريتون"؛ وهو ما يعنى أن أمريكا لن تبادل الدولار بالذهب، وأصبحت أمريكا تطبع المزيد من الدولارات بدون رصيد أو غطاء؛ مما يعني بوضوح الاستيلاء الواضح على ثروات العالم، مقابل حفنة ورق تسمى الدولار؛ بل وضغطوا من أجل بيع البترول بالدولار أيضًا، وصاحب ذلك تدخلات عسكرية وحروب متعددة لفرض الهيمنة والنفوذ؛ بداية من فيتنام إلى العراق، وازدواجية في المعايير والقيم داخل وخارج أمريكا بلد الديمقراطية والحريات، مع تراجع القيم الأخلاقية؛ مما أدى لتراجع اقتصادي كبير كان يتم تغطيته بصفقات سلاح بضغوط سياسية كبيرة.
كما أن استغلال ثروات العالم الثالث له دور كبير في النمو الاقتصادي؛ فمثلا قامت النهضة الصناعية في الغرب كله على استيراد البترول بنحو ٢ دولار فقط؛ وهو سعر مجحف للملاك؛ أي أن عوامل الضعف داخلية ناتجة عن سياسات خاطئة كان لابد لها من نهاية، وتلك النهاية توقعها هنري كيسنجر مع أزمة كورونا في قوله: "لو فشلت أمريكا في اجتياز الأزمة بنجاح؛ سيؤدي هذا إلى سقوط النظام الرأسمالي".
وصاحب هذا التراجع صعود كبير للتنين الصيني، ليس فقط في معدلات النمو الاقتصادي المرتفع، ولكنه صاحبه نجاح كبير في القضاء على الفقر والأمية، فقد كان متوسط دخل الفرد في الصين نحو 26 دولار شهريًا عام 1979، وارتفع إلى أكثر من 500 دولار شهريًا من عامين، وهذه معجزة اقتصادية كبيرة قامت بها الصين بدون نهب ثروات الغير، وقام بها الحزب الشيوعي بعد أن أتاح الفرصة للقطاع الخاص للمساهمة بجوار الحكومة بحصة نحو الثلث، والحكومة النصيب الأكبر في التنمية، ما يؤكد أهمية اتاحة الفرصة للقطاع الخاص في التنمية تحت قيادة الدولة المركزية، خاصة أن الصين تنتمي لحضارات الأنهار -مثل مصر- وتستلزم دولة مركزية قوية عكس حضارات المطر، وتقدمت في مجال التكنولوجيا الحديثة بتكنولوجيا متقدمة وأسعار رخيصة وصلت لكافة الطبقات، مع سوق صينية ضخمة قادرة على التبادل التجاري العادل مع معظم دول العالم ومشروعات مشتركة مربحة للجميع مثل طريق الحرير العالمي.
كل ما سبق يؤكد أن الصين قادمة في المقدمة بقوة اقتصادية وبشرية رهيبة، وروسيا تستعيد قوتها، والهند قادمة أيضًا، ولذلك ملامح جديدة لقوى اقتصادية وسياسية تشير لتعدد نظام القوى ونهاية الرأسمالية، واقتصاد جديد يتضمن تقاربًا جديدًا وتقاسمًا لدور الدولة في المقدمة، وتبعه القطاع الخاص الوطني، وهذا ما أشار إليه كثير من علماء الاقتصاد من قبل؛ مثل بول كروجمان الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد الذي أشار إلى أهمية إعادة التوازن بين دور الدولة في التنمية وحرية السوق؛ لأن حرية السوق وحدها ثبت فشلها وعجزها عن تحقيق التنمية المستقلة، خاصة بعد أزمة الرهن العقاري؛ لأنه لولا تدخل الحكومات المركزية لانهارت الرأسمالية؛ حيث ضخت الحكومة المركزية الأمريكية نحو 700 مليار دولار لحماية السوق من الانهيار؛ ولذلك أصبح للدولة دور واضح وكبير؛ سواء في فرنسا أو ألمانيا أو إسرائيل وغيرها لا يقل عن دور القطاع الخاص، ووقتها أعلن ساركوزي رئيس وزراء فرنسا نهاية الرأسمالية.
كما أن حرية السوق انتهت عندما فرض ترامب ضرائب على الواردات الصينية؛ قائلا لا نريد حرية السوق، بل نريد عدالة السوق مع الصين، كما قامت أمريكا خلال أزمة كورونا بتأميم مؤقت لكل شركات أجهزة التنفس ومستلزمات كورونا طوال فترة الأزمة; ولذلك يضيف كروجمان أن دور الدولة في الاقتصاد مهم جدًا، ويختلف من دولة لأخرى، ومن وقت لآخر، ولكنها أي الدولة تبقى المسئولة في كل الأحوال عن حفظ التوازن الاقتصادي، وإعادة توزيع الدخل وإشباع الحاجات الأساسية لمواطنيها، وتوفير خدمة جيدة في كافة القطاعات والفئات، وإذا اقتضى الأمر أن يكون لها اليد الطولى في الاقتصاد لإصلاح ما أفسدته آليات وحرية السوق لتحقيق الدولة القوية.
كل ما سبق يؤكد قيام نظم اقتصادية وسياسية جديدة وتحالفات جديدة وفقًا لهذه المتغيرات، التي نتمنى أن تكون فرصة جديدة لقيام الولايات المتحدة العربية مع لا مركزية تحتفظ لكل دولة بمواردها، مع أولوية التبادل التجاري ونسبة من الدخل القومي لقيام جيش عربي موحد وشرطة موحدة؛ لضبط الأمن والأمان للوطن العربي الكبير.. والله ولي التوفيق.