راديو الاهرام

عبدالسلام فاروق يكتب: استجمام.. على غدير الثقافة

26-3-2022 | 14:48

ثمة كتب تقرأها لتعرف، وكتب تقرأها لأنها ضرورة وقتية وتنويرية..

ومنها هذا الكتاب عن نجم من نجوم الثقافة والفكر غادر عالمنا وأورث تلامذته مشروعاً ثقافياً مكتملاً وضعوا على عاتقهم استكماله والبوح به وفضّ مستغلقاته وأسراره، والكتاب في الأصل رسالة دكتوراه للدكتور أحمد منيسي الباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، يتناول الرحلة الفكرية والسياسية لمثقف موسوعى تفرد بين أبناء جيل الوسط من النخبة الثقافية الذى تسلم الراية من جيل الرواد كجمال حمدان وأحمد مستجير.

الكتاب المهم صدر عن دار النخبة بالقاهرة تحت عنوان (المشروع الفكرى للدكتور محمد السيد سعيد) ، وهو كتاب توثيقي يقع فى 328 صفحة من القطع الكبير.  ينتظم في مسارين: الأول خاص بمنهج سعيد في التحليل ويركز على دراسة الرؤى المتعلقة بالنهضة والإصلاح. والثاني ينصرف إلى القضايا العلمية والفلسفية فى ذهنية سعيد ومنهجه التحليلي العميق. وهو لا يغفل الجانب الشخصى والذاتى فى بطل الكتاب الذى تميزت رحلته بالعملية والاتجاه نحو تطبيق منهاجه الفكرى على أرض الواقع ، وتحفيز الآخرين على تبنى تلك الأفكار المثمرة.

تناول أحمد منيسي سمات ومراحل المشروع الفكري للدكتور محمد السيد سعيد، لبيان أصوله النظرية والعملية وما لحق به من تحولات وما قدمه من أفكار عميقة وحيوية للإصلاح والتطوير في مجالات ثلاثة هي:

1-الأوضاع في مصر

2- النظام العربي والقضايا العربية

3- النظام الدولي والعلاقات الدولية.

على هذا النحو اتجه "منيسي" نحو بلورة الإسهامات النظرية لمحمد السيد سعيد، باعتباره أحد المفكرين الكبار ذوي الأفكار والتصورات الفلسفية العميقة في الكثير من القضايا النظرية.

شرع د. أحمد منيسي فى بداية كتابه فى كشف خبايا تفاعل الدكتور محمد السيد سعيد في الحياة السياسية لأكثر من أربعين عاماً، والتي بدأت مبكراً بانخراطه فى هموم الحركة الطلابية نهاية الستينيات وبداية السبعينيات وانتهت بتأسيس الحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية" ومشاركته الفاعلة في الحراك السياسي الذي شهدته مصر في العقد الأخير من حياته، والذي انتهى إلى تفجير ثورة 25 يناير 2011.

أكد منيسي أنه ومثلما تأثر سعيد بالخصوصية الحضارية للمجتمع المصري وبالتحولات الكبرى التي مر بها ، جاء مشروعه الفكري ذا طابع أصيل ومتفاعل بشدة مع قضايا الواقع. فقد تأثر بالتحولات الكبرى التي حدثت على الصعيدين الإقليمي والدولي، ومن ثم جاء مشروعه الفكري منفتحاً وشاملاً ومتجدداً. ومن أبرز هذه التحولات، ظاهرة المد القومي العربي خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، وتفكك الاتحاد السوفيتي وسقوط المعسكر الشيوعي وظهور النظام العالمي الجديد وتنامي ظاهرة العولمة والغزو العراقي للكويت (1990) والاحتلال الأمريكي للعراق (2003). كلها أحداث تركت تأثيراتها الواضحة على المسار الفكرى والسياسي للدكتور سعيد. فصل كامل تحدث عن تلك الجوانب الثرية من بواكير المشروع الفكرى والسياسي للدكتور سعيد وإرهاصات ذلك المشروع.

بينما انصب اهتمام الفصل الثانى من هذا البحث الدسم على وصف جوانب وزوايا ذلك المشروع الفكرى ملقياً الضوء حول القدرة الخارقة للدكتور سعيد على وصف أبعاد المشهد السياسي وإعادة تركيبه وتحليله إلى عوامله الأولية لتشكيل منهاجه الفكرى الخاص . وكيف أن محور الارتكاز فى هذا المشروع هو الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان اهتماماً مكثفاً لا على المستوى النظرى والفلسفى فقط بل وعلى المستوى التطبيقي مستعيناً بالتراث الإنساني للفقه الإسلامي أيضا في دعوته لسلمية النضال من أجل حقوق الإنسان، دون أن ينفي حضور عدد من الإشكاليات في الفقه الإسلامي من منظور حقوق الإنسان، أبرزها تلك المتعلقة بحقوق المرأة وقوانين الحقوق الشخصية ووضع الأقليات الدينية غير المسلمة.
ويمكن اعتبار الفصل الثالث بمثابة ذروة الفكرة أو قمة الجبل الصاعد نحو المنهج التطبيقى لمشروع سعيد الفكرى؛ وقد تم تقسيمه إلى خمسة مباحث تطبيقية : المبحث الأول يمس إشكاليات الإصلاح السياسي وقضاياه الكبري، فيما يتناول المبحث الثاني أزمات الوضع الاقتصادي، ثم المبحث الثالث حول إشكاليات الوضع الثقافي، والرابع عن قضايا الإصلاح الاجتماعي، بينما تعرَّض المبحث الخامس لمشكلات السياسة الخارجية المصرية. 

من رأى الدكتور سعيد، كما أكد منيسي، أن الدولة الحديثة في مصر نشأت استبدادية وشخصانية على يد محمد علي باشا وأنها احتفظت بجانب من هذا الطابع حتى في شكلها الليبرالي. وأن المشكلة الأساسية التي أعاقت عملية التطور الديمقراطي تمثلت في غياب التوازن بين الدولة والمجتمع، وفي رأيه أن الحل السليم لإقامة نظام ديمقراطي في مصر، يتمثل في الانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية، أو ما يسمي بدولة العدل والقانون، وهذا الحل الديمقراطي لا يعالج مشكلة تقادم وتشوه النظام السياسي فقط، بل يعالج إشكالية السياسة في المجتمعات العربية الإسلامية، وهي إشكالية تاريخية وأصولية.

أما فيما يخص رؤيته لعملية الإصلاح الاقتصادي في مصر، يذهب الدكتور محمد السيد سعيد إلى القول بأن تحقيق النهوض الاقتصادي يتطلب توافر أربعة شروط جوهرية، هي: تراكم رأسمالي سريع جداً ومتواصل ومكثف خلال عشرية زمنية  وقد تصل إلى عقدين كاملين دون توقف، يكون الهدف الرئيسي منها بناء قدرة تكنولوجية وطنية كافية في الحد الأدنى لأقلمة وتوظيف الطاقات البشرية للاقتراب من الحد الأدنى للتقدم الذى سبقتنا إليه دول عديدة. ثم التمدد في السوق العالمية عبر نشاط تصديري يتنامى بسرعة وثبات، وفى رأيه أن إنجاز ثورة صناعية وتكنولوجية، يعتمد على الثقافة أكثر مما يعتمد على المال.

وحول الوضع الثقافي في مصر يذهب سعيد للقول بأن غياب الديمقراطية أدى إلى تصدع مشروع التنوير الوطني وتدهور مظاهره لاسيما حرية الرأي التي تقع في قلب الاستنارة كمشروع فكري. وتمثل هيمنة الخطاب التحريضي الغوغائي على العقل العام، وأن السبب الرئيسي لتلك الغوغائية هو تآكل بريق الطبقة الوسطى وفاعليتها ، وتدهور المهنية والحرفية والتخصص. ويبدو التدهور واضحاً في هذا العدد الهائل من الموظفين الذين يعملون في مختلف المهن العصرية بدءاً من الجامعات ومروراً بالقضاء والمحاماة والطب والهندسة، ذهاباً إلى السياسة والثقافة دون أن يقابله مردود ثقافى ذو قيمة ملموسة. أما عن كيفية النهوض بالأوضاع الثقافية، فيري الدكتور سعيد أن استنهاض الواقع الثقافي لا يمكن أن يتم بشكل منعزل عن تطور الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعد المعرفة بمعناها الواسع أولوية جوهرية لعملية التطوير الثقافي المنشود من خلال استدعاء أسس حضارتنا المصرية القديمة وحوافز تكونها الأول.

في الفصل الرابع ناقش الكتاب القضايا العربية في المشروع الفكري للدكتور محمد السيد سعيد. بينما تناول الفصل الخامس القضايا الدولية للمشروع.

يطوف بنا الفصلان حول قضايا مفصلية وشائكة فى محيطنا الإقليمى والعالمى. كقضية أزمة الإصلاح السياسي فى الدول العربية ، ثم قضية القومية العربية والعمل العربي المشترك وأزمة تفعيل دور جامعة الدول العربية ، وهو ما استدعى الغوص فى ثنايا القضية الأهم عربياً وهى القضية الفلسطينية، وفيما يخص العلاقات العربية مع دول الجوار، دعا الدكتور سعيد إلى إعادة بناء هذه العلاقات من خلال إستراتيجية جديدة لعلاقات العرب مع العالم ككل، تضمن تحقيق المصالح القومية العربية، من خلال التفاعل بشكل إيجابي مع العالم الخارجي، ذلك أن ممارسة السياسة علي المستوي الدولي من قِبل الدول العربية، مازالت في الجوهر مغلفة تماماً بخطاب الحق والكرامة. وكأن السياسة ليس لها مشروعية بذاتها. وهو ما يكرس غياب مفهوم ومنطلقات ومهارات السياسة عن الوعي العام. ويقول سعيد، إن هناك ضرورة قصوى لتطوير الخطاب الثقافي العربي تجاه العالم الخارجي، لتخليص هذا الخطاب من التشوهات الكثيرة التي لحقت به .

ختم الكتاب فصوله بتناوله للقضايا الدولية فى مشروع سعيد الفكري، والتي تمثلت في ثلاث قضايا أساسية وهي: النظام الدولي والعلاقات الدولية، والإسلام والغرب، والسياسة الخارجية الأمريكية، وانتهى المنيسي إلى التأكيد على أن الحل الذي يراه سعيد للمشكلات الدولية، يتمثل في الضرورة الحاسمة لتأسيس نظام عالمي جديد يقوم على التطبيق الحاسم لقانون دولي يعكس آمال الإنسانية كلها في التقدم والتنمية والسلام. ولا سبيل لإنشاء مثل هذا إلا بإنهاء أوضاع الاستبداد على الصعيد العالمي، وهو ما يتطلب ضرورة أن يكون القانون الدولي، وليس القوة، هو الحاكم للعلاقات الدولية. واعتبر سعيد أن هناك حاجة ماسة لتأسيس مشروع سلام إسلامي عالمي، تبادر به الدول العربية والإسلامية، بحيث لا يكتفي العرب والمسلمون بردود الفعل على ما يوجَّه للإسلام من اتهامات بالتطرف، بل يجب أن يكونوا مبادرين بالفعل. 

وفيما يخص العلاقات العربية الأمريكية، فهو يؤكد أنها تعكس أمراض التبعية، وأن تصحيح الخلل القائم في تلك العلاقات يتطلب إستراتيجية واضحة وكاملة للتأثير على الشعب الأمريكي ودفعه لتأييد الحقوق العربية المشروعة، ولكن ذلك بالطبع يعني خوض معركة جبارة مع القوى الصهيونية التي تحتكر النفوذ على عملية صنع السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.

تلك كانت صورة مكثفة وجامعة لخلاصة منهج محمد السيد سعيد الفكرى على مدى أربعين عاماً أمضاها فى نضال سياسي وثقافى محاولاً التفاعل مع أحداث تبدو من تعقدها وتشابكها عصية على التفكيك والحل. وربما لهذا توفى محمد السيد سعيد فى سن صغيرة نوعاً حيث لم يكمل الستين؛ إذ استهلكه الهم الوطنى والعربي فحرص على توريث الحلول للأجيال التالية عساها أن تنتفع بتجربته ورؤيته التى أودعها جهده البحثى على مدار عقود من العمل الدءوب.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة