"إن البشرية التي نامت في حصة التاريخ لن تغير طباعها"... هكذا تتسلل كلمات "وول ديورانت" عابرة آفاق الزمن، لكنها لم تأخذ مسارها في الوعي الإنساني العام متحدية لكل حضارة تطمح نحو الصمود والانفلات من فنون الحماقة والاعتداد بالذات والارتقاء بالطبائع البربرية.
وأية غرابة وقد ظلت البشرية طيلة تاريخها تواجه مشكلات حادة وأزمات طاحنة ومحن ومعضلات ومآزق وتحديات على كافة الأصعدة سياسيًا وإستراتيجيًا واقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا، وبالطبع لم يجتمع كل ذلك في حقبة وإنما تنقل بين الأشواط الزمنية والدورات الحضارية، وقد تعددت أسس وطرائق التعامل مع كل ذلك حتى أنها قد بلغت في أحيان حد التناقض لكن القاسم المشترك بينها هو مدى التأثير والفاعلية في تحديد وتحجيم طوفان المعوقات التي تجر المسيرة نحو الوراء، وقد نجحت كيانات وفشلت أخرى، لكنها في كل الأحوال قد قدمت تجارب حيوية على درجة من الخصوبة؛ بحيث أصبحت تمثل أدبيات ومرجعيات يمكن استذكارها والوعي بها اعتبارًا، لكنها ربما لا تمثل مسارًا حتميًا أو قدوة تاريخية نترسم خطاها لماذا؟؟؟
لأن البشرية لم تدخل بالفعل مرحلة جديدة من التاريخ وإنما قد دخلت تاريخًا جديدًا ذا طابع نوعي، من ثم فهو منبت الصلة إلى حد بعيد بالكثير من ميراث الماضي... نعم مرحلة من تاريخ جديد لها معطياتها وظرفياتها ومنطقها وآلياتها ومفاهيمها ونمط تفكيرها وطبيعتها الحضارية، حتى إنها تكاد تكون كينونة تاريخية خاصة لها مفرداتها الإيجابية المنفردة، لكنها تواجه في ذات الآن تحديات غير مسبوقة تكاد تسحقها وتستأصلها، وهنا تتجلى التناقضية الصارخة التي تنتج كل معاني الذهول والحيرة والتخبط، إذ كيف تصبح تحديات التقدم هي مشكلات على درجة من التعقيد والاستحالة التي تؤشر بالفشل في اجتيازها أو حتى السيطرة عليها وتطويقها؟ وهو ما قد حرك وأثار في عقول فلاسفة الحضارة مفهومات عن الإنسانية المتوعكة أو البؤس الحضاري وغياب المعنى والاكتئاب الذهني وسطوة الإحباط التاريخي وصدارة غيوم المستقبل، وعلى ذلك ما الذي يمكن أن يطرحه وجود كم هائل من التحديات الحضارية التي لا يقوى كيان وحده مهما بلغت ثرواته المادية والمعرفية وإمكاناته الإستراتيجية على التصدي لها وتفكيكها وإذابتها؟ وهل يتم التعويل على تجميد هذه التحديات أم أنها تشهد انفلاتًا لا يسمح بتجميدها؟ وما هي طبيعة التفكير الابتكاري والإبداعي الذي يمكن توظيفه لتقليص حدة هذه التحديات؟ وهل بات الخلاص من تلك التحديات يمثل إشكالية حادة للمجتمع الإنساني يحال تجاوزها؟ أم أن محاولات اقتحامها والتأثير فيها يمكن أن تكون ذات نتائج براجماتية تتسق مع اللحظة المعاصرة؟ وهل لطوفان التقدم التقني – بإيقاعه المتسارع – والذي أفرز هذه التحديات أن تمتد مسيرته إليها حتى لا يظل تقدمًا منقوصًا يسجل بؤرة قاتمة في وجه الحضارة المعاصرة؟
وعلى هذا تتجلى إشكالية المأزق الكوني في مسيرة المعاناة بين الاستمرارية على نحو مرفوض يدفع نحو استحالة الحلول ويهدد بفناء الكوكب الأرضى، وبين البحث الدؤوب نحو تغيير المعطيات وإمكانية النجاة خلال قفزات رائدة يمثلها ذلك التعاون والتضامن المشترك الذي هو الطريق الأصوب نحو التفاعل وتأكيد الإحساس بالمسئولية الكونية تجاوزًا لاحتدامات وشيكة قد تنسف أواصر الرابطة الإنسانية وتحيلها إلى رماد تاريخي.
وعلى ذلك فإن بلورة وإعادة صياغة معادلة التقدم والتي تشكل خللًا خطيرًا بين المادي والمعنوي وتعد أبرز بواعث الركود الثقافي، تكاد تكون أهم كثيرًا في الأولويات المستقبلية من حركة التقدم ذاتها والتي أنتجت طوفانًا من العلل المستشرية لتؤكد أن المعضلة الكبرى لهذه الحضارة المعاصرة أنها قد جعلت من أدوات الحضارة آلية سيطرة وقمع للإنسان كأنها قد أنجزت ذاتها أو أنجزت لغير الإنسان، من ثم فالحضارة من أجل من؟ ومن الذي شيدها وصنع تفوقها واحتراقاتها؟
فالحضارة المعاصرة هي الحضارة المنفلتة من السياقات التاريخية؛ لأنها قد جسدت من معاني الحقد والكراهية مبدأ كونيًا رأته ضرورة حتمية لكل تطور وتقدم في المجتمعات الإنسانية.
لذا فقد ترنحت بين الفضيلة المعرفية والتصدع القيمي والأخلاقي، بين إعلاء قيمة الأشياء وإهدار قيمة الإنسان، بين آفاق الرفاهية المفرطة والقحط الحياتي، بين أجواز الفضاء ودمار الكوكب الأرضي، بين حريات الشعوب والجموح الاستعماري، بين التراخي في عدم استمرارية قانون البقاء والدأب نحو إقرار معادلة الفناء، بين الفرار من الذات والتهرب من الآخر، بين مأزق التقدم وويلات الرجعية... من ثم هل حققت هذه الحضارة المثل الأعلى للتحضر الإنساني؟ وهل اتخذت من القيمة الأخلاقية قوة موجهة للمستقبل؟ وهل كانت التجربة الإنسانية بكل مخاضاتها تمثل حيزًا طفيفًا في مرجعيتها؟ وهل يمكن طرح الاحتمال المستحيل أن تكون هذه الحضارة تعايش أزمة معرفية متوارية في كينونتها تتمثل في غياب مقاييس معنى الحضارة والتي أولها الشعور بالأمن والكفاية وسيادة منطق التفاهم والتواصل والمساواة والحرية والعدالة والكرامة؟
وعلى ذلك فالإطار الحضاري المتقدم أو الحركة الحضارية المتفوقة لا يمكن بحال أن تحتضن إطارًا سياسيًا متهاوٍ يمثل ركيزة محورية في تعطيل وإيقاف تيار التقدم وانتكاسة مروعة للحضارة بإنتاجه كوارث سياسية متجددة أفرزت تدهورًا اقتصاديًا واجتماعيًا وإستراتيجيًا مذهلًا، فمن مشكلات الطاقة إلى أزمات الجوع إلى دمار البيئة إلى تخليق الفيروسات، وما يكلل ذلك من المطامع الاستعمارية المكرسة للصراع الدائم بين الأنظمة التي تحيل التاريخ المعاصر جزءًا أصيلًا من دوائر شريرة بفضل عقول الساسة التي تطمس شخصية الحضارة ولا يساير فكرة المثل الأعلى السياسي في أن يتحضر الإنسان لينجو من الفناء وينعم بمنجزات حضارته ولا يطاله جحيمها، وإنما تعمل على تفعيل تحديات الإبادة وإعاقة أية استجابة للإنقاذ!!! من منطلق رفضها الباطني لإقامة المجتمع المرن القادر بذاته على التعافي من صدمات التقدم وتهديداته وإقامة جسور التقارب الإنساني والحضاري والثقافي؛ لأنها تجانب الحوارية المستقيمة المعززة لمفاهيم التنوع والتعددية ولا تسعى لتبديد فكرة الحرب أو حتى محو الخصومة وإخماد الصراعات ولا تشرع كذلك في إنهاض الوعي التقدمي لأن غاياتها المثلى إنما تكمن في توظيف الأزمات بديناميكية خاصة.
إن عِبَر التاريخ تستلزم توطيد الأساس الإنساني في المقام الأول، وأن المسئولية الكونية تستلزم الحكمة والرشادة ومراعاة الآخر وأن الانسلاخ من التجارب لا يمنح ريادة، وأن الاعتبار بالماضي لا يمثل سلاحًا مضادًا للحداثة، وأن الرؤية الحضارية تحتم استحضار فكرة مجتمع المصير المشترك، وأن التخلي عن أداء الأدوار هو جريمة في حق الذات، وأن مكامن القوة محلها العقل وليس ساحة الترسانات النووية، وأن أفول الحضارات أو زوالها يعد دلالة قاطعة على عجز السيطرة على الزمن، وأن البدائل عديدة ومتعددة ودائمًا ما تسحق الأحادية، وأن النظرة إلى العالم كيف كان؟ وماذا أصبح؟ وإلى ما يصير؟ تعد أهم الثوابت... وتلك هي القضية!!!.