أبدأ الجزء الثاني من مقال "أنا آسف" بكثير من الامتنان لما صادفه الجزء الأول من غبطة لدى قطاع كبير من المتابعين؛ كشف عن قيمة ثقافة الاعتذار لديهم؛ وتوقيرها داخل نفوسهم؛ كما كشفت عن نبل الإنسان بفطرته السوية.
لكن اليوم؛ أحب التحدث في شأن قد يبدو مغايرًا؛ ولكنه في الحقيقة ملامس لما سبق؛ وهو الفرق بين "الآسف" والتسامح؛ فالتسامح يعني قبول الأسف حال تقديمه؛ ولكن متي يكون التسامح؟
هل يكون قبوله جبرًا؛ فيشعر المتسامح بدونيته مقارنة مع الموقف؛ أم رضاءً؛ فيكون نتيجة قدرة على رفضه في نفس وقت قبوله؛ قد تثير المسألة لبسًا في الأمر؛ ولكن الواقع ملئ بروايات يصعب حصرها.
هل يمكن أن نُعرف "الآسف" أولًا؟
إنه شعور بالندم على فعل تم ارتكابه أيًا كان حجمه؛ ومن ثم المحاولة عن إبداء هذا الشعور بشكل معلن؛ من خلال تقديم الأسف؛ ولكن الأمر مرتهن أولًا بالشعور بالندم؛ وتلك مسألة سيبدو فيها الخلاف بين الآراء واضحًا.
أتذكر وأنا في نهاية المرحلة الابتدائية؛ كان هناك مدرس متميز اسمه الأستاذ أحمد سميح؛ رحمه الله؛ كان حاد الطباع والملامح؛ لا يعطي لأحد مساحة من الألفة؛ وكنا نهابه ونخشاه جميعنا.
وفي أحد الدروس التي كان يشرحها؛ فاجأ التلاميذ بسؤال مباغت؛ أعتقد كان عن عواصم المحافظات المصرية؛ فسارعت برفع يدي للإجابة؛ فجاوبت بسرعة شديدة؛ بشكل جعله يسمع إجابة إحدى العواصم بشكل خطأ؛ فنهرني بعنف شديد للغاية؛ مما جعل الموقف ملتهبًا؛ ومن ثم زاد ارتباكي؛ رغم تيقني من الإجابة؛ وتساءل كيف تقول كذا.
فقولت إنني قولت العاصمة الصحيحة؛ فسكت لبرهة؛ ثم تحدث بعض من زملائي بسؤال الأستاذ؛ أليست العاصمة كما ذكرت؛ فبهدوء شديد قدم الأستاذ اعتذاره برقة لم أعهدها منه؛ ليختفي ارتباكي بسرعة؛ فتكسو وجهي علامات الرضا عن اعتذاره؛ الذي أعاد إليّ ثقتي بنفسي؛ فيربت على كتفي بحنان الأب وتعلو وجهه ابتسامة كبيرة؛ وهو يقول ممكن تتكلم بهدوء عشان اسمعك كويس.
انتهى الموقف؛ ولكن ظل أثره ممتدًا حتى اللحظة؛ فقد تعلمت يومها قيمة وقامة الاعتذار؛ وأنه كلما علا قدرك؛ تحتم عليك أن تتواضع؛ وأن التواضع واحترام الناس؛ الصغير والكبير؛ ينم عن وعي وعلم وأدب.
بعد هذا الموقف بعدة سنوات؛ تكرر ولكن مع أبي رحمة الله عليه؛ حيث نهرني ظنًا منه أنني أسأت التصرف؛ وحينما تيقن من خطأه؛ اعتذر؛ ولم يتكبر عن الاعتذار؛ أشعرني رحمة الله عليه أنني كبرت عدة سنوات في تلك اللحظة؛ وبهدوء المتمكن؛ وثقة الحكيم؛ أضاف أبي لشخصيتي بعدًا أكثر رحابة؛ حيث أدركت أن أحد معايير الرجولة أن تدرك الخطأ؛ ولا تتعالى عن تقويمه.
تمر الأيام وتدور السنون؛ ويتكرر الموقف الذي حدث مع والدي عليه رحمة الله؛ ولكن وضعي اختلف؛ أنا الأب؛ والطرف نجلي العزيز؛ نهرته ظنًا مني بارتكابه خطأ شعرت أنه كبير؛ واكتشفت أن تقديري للوضع غير سليم؛ مما يعني أنه لم يخطئ؛ لأجدني بيسر بَيّن أقدم له اعتذارًا بوضوح ودون مواربة؛ فتقبل نجلي اعتذاري بنفس رحبة وسعة صدر رائعة؛ لأقول في نفسي يا الله؛ هل لتلك الدرجة يؤكد الله أن ما نزرعه نحصده.
تلك المواقف الثلاثة تنبئ بأن الأب ومعه المدرس؛ هما عنصرا بناء الشخصية؛ لأن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر؛ وأيضًا من شب على شيء شاب عليه؛ تلك الحكمتان كفيلتان بتبيان كيف نسير؛ وإلى أين نصل.
العسل في بلدنا أنواع؛ يختلف باختلاف الزهرة التي تلتقط ريحقها النحلة؛ فهناك عسل زهرة البردقوش؛ وعسل زهرة البرسيم.. إلخ
كذلك الأبناء إذا وجدوا الرعاية اللائقة المبنية على الحب والاحترام؛ ينمو على نفس الوتيرة؛ والعكس صحيح؛ لذلك من الطبيعي أن نجد اختلافات بين البيئات باختلاف مكوناتها الثقافية.
وبناء عليه؛ إذا أردنا مجتمعًا سويًا؛ علينا أن نربي الأبناء تربية صحيحة سوية طبيعية؛ وكم عدد من شاب؛ وندم على أفعال كثيرة فعلها وأخطأ في أُناس آخرين؛ ويتمنى أن يعود به الزمن ليصحح أخطاءه.
وللحديث بقية نستكملها في مقال قادم
،،، والله من وراء القصد
[email protected]