عُرف إبراهيم ناجي بشاعر الأطلال؛ وفي ذلك "ظلم" له، وفي الأسطر التالية سنقدم ما يثبت أنه شاعر الربيع والأطلال؛ وأن الأخيرة كانت جزءًا فقط من إبداعاته؛ فكانت حياته زاخرة بالتميز وثرية، وكتب للربيع وتغنى به وبالحب وكانت حياته مزيجًا بين الفرح والعذاب، التألق والذبول، والحيوية الفائقة والمرض وظل يعمل لآخر يوم في حياته..
لا يعرف الكثيرون أنه لم يكتف بكتابة الشعر وترجم بعض الكتب، منها ترجمته عن الإنجليزية أهم روايات الكاتب الروسي دوستويفسكي؛ الجريمة والعقاب واختار ترجمة أزهار الشر للشاعر الفرنسي بودلير.
كان من أهم مؤسسي مدرسة أبوللو الشعرية ولد في 31 ديسمبر 1898 وتوفي في 24 مارس 1953، ومرت حياته بمراحل متنوعة؛ بعضها مؤلم ساهم في "نضوج" تجربته الشعرية المتفردة..
نشأ في أسرته مع أب يحب الكتب ويمتلك الكثير منها، وشجعه على القراءة وأتقن ناجي عدة لغات؛ الإنجليزية والألمانية والفرنسية ودرس الطب.
لا تمنح الحياة النجاح بسهولة أبدًا، ولا تستمر بمنحه إلا بشروط؛ منها المثابرة وتجديد "الرغبة" بعدم الاكتفاء بما حققه والتطلع للأفضل طوال العمر..
ولا يمنح الشعر كنوزه وأصدافه ولآلئه إلا لمن يمتلك أدواته؛ ولعل أهمها الحس المرهف والرغبة الصادقة في مساعدة الناس واللغة القوية والثقافة الواسعة، وهو ما توافر بامتياز لإبراهيم ناجي؛ فقد فاز بقراءة الشعر العربي القديم، وتشكلت ذائقته الأدبية مبكرًا، وأضاف إليها قراءة الأدب العالمي مع عمق تجاربه الإنسانية وممارسته للطب، وتنقل كطبيب ببعض محافظات مصر، وتعامل مع المرضى "بقلب" شاعر فكان رحيمًا بالمرضى ويعالج معظمهم بالمجان لفقرهم، وأحيانا يشتري لهم الدواء..
كتب الشعر وهو صبي بالثالثة عشرة من عمره؛ وكانت قصيدة بعنوان "على البحر"، وترجم أشعارًا عالمية ونشرها بالصحف، وتسببت رهافة حسه الزائدة "بإيذائه" نفسيًا؛ فلم يتحمل وعانى كثيرًا بعد قراءته للنقد القاسي الذي وجهه الدكتور طه حسين لديوانه الأول؛ وتناسى طه حسين القول البديع للشاعر عبدالرحمن شكري:
(ألا يا طائر الفردوس إن الشعر وجدان).. وهو ما كان "يفيض" به شعر ناجي..
كتب ناجي القصص بعد نقد طه حسين له، وأصدر كتابه "مدينة الأحلام" الذي يتضمن قصصًا كتبها وأضاف إليها قصصًا قام بترجمتها، وكان يبدو عليه الأسى "لاضطراره" لهجر الشعر مؤقتًا وكتابة القصص، فكتب بمقدمة مدينة الأحلام: وداعًا أيها الشعر.. وداعًا أيها الفن.. وداعًا أيها الفكر، ونسي في غمرة أحزانه أن القصص من الفن والفكر..
لم يستسلم ناجي أبدًا لقسوة حياته وللظلم الذي تعرض له في وظيفته الحكومية، واضطر لتركها والتفرغ لعيادته، وكتب في مذكراته أنه يتحامل على نفسه ويذهب للعمل وهو مريض ليؤدي واجباته ويسدد ديونه؛ وكان ذلك اختيارًا ذكيًا منه؛ فالعمل هو أفضل دواء؛ يقلل الشعور بالمعاناة ومع الاستغراق به يتحسن المزاج وتصبح الصحة الجسدية أفضل مع جني "ثمار" الإنجاز المعنوية والمادية، بعكس الاستسلام للمرض وزرع "العجز" داخل العقل والقلب مما يضاعف المرض الجسدي والنفسي أيضًا.
حارب ضغوط الحياة وغنى للربيع، وأظهر توق نفسه لحياة جميلة ورفضه للوجع فقال:
مرحى ومرحى يا ربيع العام أشرق فدتك مشارق الأيام
بعد الشتاء وطول عبوسه أرنا بشاشة ثغرك البسًام
وأبعث لنا أرج النسيم معطرًا متخطرًا كخواطر الأحلام
لم ينغلق على نفسه ولا على مشاكله الخاصة، وكان لحب الوطن مكانًا مميزًا بقلبه وبشعره فأنشد عدة قصائد تفيض بالعشق لمصر ويستنهض الهمم، ومنها قصيدة "مصر" التي غنتها أم كلثوم وفيها أنشد:
أجل إن ذا يوم لمن يفتدي مصرًا فمصر هي المحراب والجنة الكبرى
سلامًا شباب النيل في كل موقف على الدهر يجني المجد أو يجلب الفخرا
تعالوا فقد حانت أمور عظيمة فلا كان منا غافل يصم العصرا
تعالوا نقل للصعب أهلاً فإننا. شباب ألفنا الصعب والمطلب الوعرا
احترم إبراهيم ناجي موهبته فكانت عندما تأتيه أي خاطرة شعرية يسارع بكتابتها على أي ورقة يجدها؛ فكان يكتب أحيانًا على "الروشتات" الطبية حتى يمسك بالخاطرة ولا تضيع منه..
تنوعت مجالات أنشطته واهتماماته وإنجازاته؛ وهي توسع دوائر الخبرة والإبداع أيضًا فأصدر كتبًا طبية ومجلة باسم حكيم البيت وكتب روايته الوحيدة "زازا"، وتمنى أن تغني أم كلثوم رائعته الأطلال وتحققت الأمنية بعد ثلاثة عشرة عامًا من وفاته؛ وأثبت أن العمل الجيد "يفرض" نفسه ولو بعد حين..
لم يعش حزينًا بعد فشل قصة حبه، والتي كتب عنها الأطلال؛ فقد تزوج وأحب زوجته وأسرته وكان يداعبهم بالشعر كما صرحت ابنته في لقاء تليفزيوني..
يقول في رائعته الأطلال:
يا فؤادي لا تسل أين الهوى كان صرحًا من خيال فهوى
اسقني واشرب على أطلاله واروي عني طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب أمسى خبرًا وحديثًا من أحاديث الجوى
لم يختزل ناجي الحب بحب حواء -كما أشيع عنه- وأحب كل ما هو نبيل وجميل، ونتوقف عند اعتزازه الجميل بانتمائه للشرق مهد الديانات السماوية
يقول ناجي:
الشرق مهد للنبوغ ومولد للمجد فيه ربا وشب غُلاما
زكت النبوة في حماه ورعرعت وتألقت كالفرقدين نظاما
ومحمد يكفيك أن محمدًا بين البرية أوجد الإسلاما.