(تم تجهيز حملة لمداهمة بيت السيدة ليتم ضبطها ومعها مسحوق غريب تقوم بخلطه بالهيروين)، هكذا دوَّن حكمدار القاهرة "توماس راسل" بمذكراته مندهشًا من ماهية المادة المطحونة التي مزجتها تلك المرأة بسُمها الأبيض قبل بيعه لمدمني منطقة "الخليفة". آخرون قبلها وسعيًا منهم للحفاظ على زبائنهم وإبقاءً لثمن المخدر بالسوق كما هو عقب ارتفاع كلفته، كانوا يخلطون الهيروين باللبن المجفف، لكن هذه السيدة وبحكم موقع بيتها، لجأتْ لمسحوق أرخص متلائم مع جيوب مدمني المناطق الشعبية! من أجل هذه المرأة وضحاياها، شكَّل حكمدار العاصمة في العشرين من مارس/ آذار عام 1929، أول مكتب لمكافحة المخدرات في مصر والشرق. تُرى أي شيطان أوحى لهذه السيدة بفكرة هذا المسحوق!
تولى "توماس" باشا حكمدارية القاهرة عام 1918، خلفًا للأسكتلندي "ليو هارفي" باشا. وبعيدًا عن المخدرات السوداء كالحشيش والأفيون، كان المخدر الأبيض المُخلق مثل الكوكايين قد عرف طريقه أول مرة عام 1916، كذلك الهيروين بتأثيره الأهلك، فكان كيميائيٌ قاهريٌ أول مَن باعه بصيدليته. الجرعة كانت مقابل بضعة شلنات والزبائن كانوا أثرياء. وخلال أعوام قلائل شرع المخدر الجديد ينتشر بين الناس، حتى رصد الحكمدار بين قاطني "بولاق" حقنًا وريديًا للهيروين! ولم يكن قد رأى هذا من قبل! صُدم "راسل" من أبناء الصعيد الأشداء الذين كانوا الأغلب من بين سكان "بولاق" وقد تحولوا لقوارض تبحث عن طعامها بين القمامة! ثم تعددت البلاغات الغامضة التي تتلقاها الشرطة بالعثور على جثث في المنطقة! ليتم اكتشاف أن السبب هو وباء الملاريا الذي استشرى بين دماء الضحايا عبر إبر التعاطي.
وحتى نهاية الحرب العظمى الأولى، لم يكترث أحد بتشديد العقوبة التي كانت غرامة زهيدة أو السجن لأسبوع بحد أقصى! حتى شوهد مقاولون يبيعون شركاتهم من أجل جرعة. بلغ سعر كيلو الهيروين بالقاهرة 120جنيهًا، في حين يباع للمهرب عند عتب المصنع بأوروبا مقابل 17 جنيهًا. أرباح طائلة ضعفت لأجلها النفوس حتى إن الداخلية عام 1925 كان لديها قائمة بأسماء 5600 تاجر بالقاهرة وحدها! وكان لا بدَّ من تغليظ العقوبة والمساواة بين حائز المخدر والمُتجر فيه، فرُفع الحبس لخمس سنوات والغرامة لألف جنيه. ومع بدء 1929 انتشر الهيروين بعموم القطر. يقول الحكمدار وفقًا لإحصائه: (من بين 14 مليون شخص، عدد سكان البلاد في ذلك الوقت، كان نصفهم على الأقل عبيدًا لهذا المخدر). صورة مُروعة لمصر الملكية، لم نطالعها بكتب التاريخ المدرسي!
بدعم من وزير الداخلية آنذاك "محمد محمود"، استجابتْ الحكومة لطلب "توماس راسل" تشكيل مكتب مركزي لاستخبارات المخدرات، مهامه كانت ملاحقة المُتجرين وتعقب مصادر استيراده من أوروبا وغيرها، على أن يتم ذلك بشكل يرفع سعر المخدر لحد يعرقل وصوله للفلاحين، مع وضع كل الحقائق المتاحة أمام لجنة مكافحة المخدرات بعصبة الأمم. العثرة كانت الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة، والتي تحول دون محاكمة المهربين الأجانب أمام القضاء المصري، لكن الحكمدار وبوساطته مع القناصل الأجانب، جعل مصر بقضايا المخدرات تتمكن بالسنوات التالية لتشديد العقوبة، من محاكمة 444 أجنبيًا أمام المحاكم المختلطة وبالقانون المصري، فأُدين منهم 334 مُهربًا، من بينهم الأرمني "زكريان" الذي توارى خلف بيع السجاد، وكان سقوطه بالقاهرة خيطًا قاد لإسقاط أباطرة أوروبا.
كان هذا بعضًا من توثيق هائل للباحات الخلفية بالمدينة، تضمنته مذكرات حكمدار القاهرة "توماس راسل"، التي دوَّنها عام 1949، وترجمها الباحث والكاتب "مصطفى عبيد"عام 2020. خبايا عن الدعارة والجريمة والمخدرات وبدايات الهيروين بالمحروسة، هذا المخدر الذي كانت تبيعه امرأة بمنطقة الخليفة ممزوجًا بمسحوق العظام البشرية؛ نظرًا لسكنها جوار مقابر المماليك!
للتواصل مع الكاتب عبر تويتر: twitter.com/sheriefsaid