يشهد العالم موجات متتالية من ارتفاع الأسعار؛ نتيجة حدوث تغيرات عالمية كبرى توحي بقيام نظام عالمي جديد قد يختلف كلية عن الوضع السائد في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية، وما يترتب على ذلك من آثار اجتماعية خطيرة على الدول النامية، وهذه التغيرات ترجع أحداثها إلى عقود في أمريكا مع تراجع معدلات النمو الاقتصادي والتوسع في حروب خارجية بلا جدوى -مثل العراق- مع تراجع في منظومة القيم الاجتماعية داخليًا وتوحش الرأسمالية داخل وخارج أمريكا.
وفي المقابل نمو اقتصادي كبير للصين مع القضاء على الفقر الشديد، ومعدلات نمو أضعاف النمو الاقتصادي الأمريكي؛ مما قفز بالصين لتصبح قوة عظمى، مقابل تقهقر وتراجع أمريكي واضح، مع نجاح صيني كبير في تجاوز أزمة كورونا، مقابل فشل أمريكي، وهنا نتذكر مقولة الثعلب الأمريكي كيسنجر مع بداية الأزمة، حينما قال يجب أن تخرج أمريكا من أزمة كورونا بحصولها على ثقة شعبها والعالم وبتفوق على الجميع؛ لكسب الثقة في نجاح الرأسمالية، وإلا سوف تكون الرأسمالية في أزمة حقيقية.
وفي المقابل نجحت الصين الشيوعية في السيطرة على كورونا واجتياز الأزمة بتفوق، وهنا اعتبر كيسنجر أزمة كورونا اختبارًا حقيقيًا لمدى نجاح النظام الاقتصادي والسياسي، ولقد صدقت رؤية كيسنجر، وترتب على الفشل الأمريكي تراجع واضح في قوة ومكانة أمريكا، استغلته روسيا في التعامل مع أوكرانيا؛ لتؤكد عجز وفشل أمريكا، وتراجع مكانتها وسطوتها السابقة، وهذا يعني نهاية سيطرة القطب الواحد، وبداية لنظام سياسي جديد تظهر فيه الصين في المقدمة مع تنافس روسي وأمريكي، وتقدم واضح للهند يوحي بأنها في الطريق لسباق المقدمة.
وهذه التغيرات السياسية نتيجة مهمة للأوضاع الاقتصادية العالمية؛ مما يعني بالتبعية تغيرات اقتصادية هيكلية في النظام الاقتصادي العالمي بعد فشل الرأسمالية، كما تنبأ كيسنجر، واليوم تسعى الصين للتعامل باليوان الصيني في تجارتها الخارجية بديلا عن الدولار؛ للاستفادة من تفوقها الاقتصادي، وهذا حقها، ولكنه سوف يحدث زلزالا اقتصاديًا ضخمًا يسقط عرش الدولار، وهذا يعني نشوب حرب اقتصادية عالمية بين اليوان والدولار.
وهذا سيضع كثيرًا من دول العالم في موقف حرج؛ وهو الاختيار بين العملة الصينية والأمريكية، وما يتبع ذلك من اختيارات سياسية وتحالفات جديدة قد تغير خريطة العالم، وخاصة أن التجارب السابقة لأصدقاء أمريكا كانت مؤلمة لجميع الأصدقاء تقريبًا؛ بداية من شاه إيران إلى رئيس أوكرانيا الحالي، وصاحب الأزمة الروسية الأوكرانية ارتفاع أسعار البترول لأرقام كبيرة، ولا أحد يعلم متى تنتهي هذه الحرب، وأين سوف يستقر سعر البترول، مع اضطرار أمريكا لرفع سعر الفائدة على الدولار.
كل هذه الموضوعات تشابكت وشكلت أزمة عالمية سياسية واقتصادية كبيرة قد تكون مقدمة لتغييرات هيكلية في النظم والتحالفات السياسية والاقتصادية على مستوى العالم، ومن المؤكد أن القادم سيكون مختلفًا كثيرًا، وأن هناك عالمًا جديدًا تنسج خيوطه، ويصعب الآن تحديد تفاصيله، خاصة مع الغرور الأمريكي، أو الأسد الجريح، الذي يسقط ويتراجع بقوة قد تدفعه للتهور والسعي لهدم المعبد، والأيام المقبلة ستوضح الكثير.
وبالنسبة لنا كعرب ما موقفنا من كل هذه التغيرات، ونحن شاهدنا الصين قد تقدمت -في نحو خمسين عامًا- من فقر وتراجع إلى مقدمة النظام العالمي، وروسيا تعود مرة أخرى والهند قادمة، فهل ينتهز العالم العربي تلك الفرصة للتوحد، والوقوف صفًا واحدًا؛ ليكون لنا نصيب تستحقه حضارتنا وتاريخنا.
والأهم الآن ما هو الموقف الداخلي لمواجهة هذه الأزمات المتلاحقة التي أدت إلى ارتفاع جنوني في أسعار الغذاء والطاقة، وما ترتب على ذلك من ارتفاع أسعار معظم السلع والخدمات، خاصة وأن المجتمع المصري شهد في السنوات الأخيرة عمليات إصلاح اقتصادي أثرت أيضًا على أسعار العملة والخدمات، وأصبح الوضع صعبًا على الطبقة الوسطى والدنيا، وهذا يتطلب فكرًا جديدًا ونهجًا غير تقليدي لمواجهة هذه المشكلات، حتى ولو بشكل مؤقت فالعالم كله يعاني من هذه الأزمات، ولابد من التخفيف قدر الاستطاعة من الضغط على هذه الطبقات، وحان الوقت لإستراتيجية جديدة، ويجب علينا جميعًا التحاور والنقاش للوصول لأفضل السبل لعبور هذه الأزمة التي قد تستمر لأجل غير معلوم.
ولذا اقترح الآتي:
تدعيم وتفعيل دور وزارة التموين في دعم المجمعات الاستهلاكية؛ لتتولى توفير جميع الاحتياجات الشعبية، وعليها أن تتواصل مع الفلاح في حقله؛ لشراء المحصول وبيعه للشعب بدون وسيط، والاستفادة من خدمة الأون لاين؛ لأنها لن تكون في حاجة لأماكن كبيرة ومميزة، فيمكن من خلال المخازن توفير كثير من النفقات، مع تعدد منافذ البيع للجهات الحكومية الأخرى المساعدة، ثم النظر في تسعير بعض الخدمات أو الاحتياجات الأساسية؛ مثل رغيف الخبز واللبن والفول.
وعلى سبيل المثال في فرنسا رغيف الفينو مسعر وثابت لسنوات طويلة، ونحن في وضع أزمة واستثنائي، ثم النظر في وقف رفع سعر البنزين كل فترة، لأن كثيرًا من الجشعين يستغلون ذلك، ويبالغون في رفع سعر كل شيء بلا مبرر، وهنا هل حان الوقت لرفع سعر بنزين 95 للسعر العالمي الذي كان قبل الأزمة الأخيرة بنحو 2 دولار؛ أي نحو ثلاثين جنيهًا، كما أعلن وزير البترول منذ سنتين، والآن لماذا ندعم بنزين 95؟
وقد حان الوقت للتفكير في تثبيت أسعار الكهرباء والماء والغاز للطبقات الوسطى والدنيا، وتحميل الطبقات العليا ذات الاستهلاك الوفير أي زيادات مستقبلية، وإعادة النظر في رفع المعاشات، وإعادة ضريبة البورصة، ورفع الضرائب التصاعدية لتمويل ذلك، وإعادة النظر في نظام حرية السوق الذي يتهاوى الآن أمام الجميع.. والله الموفق.