«تزفيتان تودوروف» واحد من أشهر وأهم المنظِّرين والنقاد المعاصرين في العالم.. وهو مؤرخ وكاتب معاصر فرنسي من أصل بلغاري، ولد عام 1939م وتوفي عام 2017م عن عمر يناهز 77 عامًا، وكان مما كتبه مؤلَّف بعنوان: (اللانظام العالمي الجديد-تأملات مواطن أوروبي).
الكتاب صدر مترجمًا في سوريا عام 2006م، وكانت الحرب الأمريكية على العراق قريبة العهد، وهي المدخل الذي انطلق منه «تودوروف» لمناقشة النظام العالمي الجديد فلسفيًا؛ ومعنى هذا أن نقد النظام العالمي ومآلاته مستمر منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، بل قبل هذا بسنوات.
يرى «تودوروف» أن الديموقراطية أفرزت ثلاثة أعداء هم: 1- المسيحية السياسية: التي تزعم بأنها خلاص العالم، في حين ترتكب أفعالًا مشينة وشرِّيرة باسم الخير، تعمل على تبرير أفعالها بدافع الوصول إلى غاية يتم وصفها على أنها «مبتغى سام» للإنسانية، إن استخدام العنف المفرط يلغي قيمة ونبل الهدف المتوخى، ومن جهة أخرى فإن واقعة فرض الخير على الآخرين بدل الاكتفاء باقتراح ذلك عليهم، بدعوى أنهم غير قادرين على حكم أنفسهم، وأن تحريرهم يستوجب أولًا إخضاعهم مسوِّغ لا يجد له أي تبرير مقبول، وعلى هذا المنوال وقع التدخل في أفغانستان والعراق وليبيا.
إن عبارة «التدخل الإنساني» ما هي إلى تورية ملفقة لعبارة «التدخل العسكري»، إن تحقيق عالم مثالي على الأرض كما تدعي المسيحية السياسية مجرد زعم كبير.
2- «الليبرالية المتطرفة»: تنطلق هذه الأيديولوجية المهيمنة من مسلمات ثابتة تنص على قدرة الفرد على تحقيق اكتفائه بذاته ولذّاته، وأن إشباع حاجياته المادية يشكل القيمة العليا للحياة البشرية، وهكذا تعمل هذه الأيديولوجيا على عزل النشاط الاقتصادي عن باقي أصناف الممارسة الإنسانية، عند هذا الحد تتوقف السلطة السياسية عن إمكان لجم السلطة الاقتصادية تحت ذريعة الحرية الفردية.
ينتج عن انتفاء المراقبة السياسية ضياع للصالح العام، وبحث لا محدود عن الربح الفوري فتفقد الحياة معناها، ويتم تجريد الكائن البشري من إنسانيته، كما قال «مونتسكيو يوما»: (إن كل سلطة بلا حدود، لا يمكن أن تكون سلطة مشروعة).
3- الشعبوية: أي سياسة تملق الشعب لتهييجه، إن الشعبوية التي هي قديمة قدم الديمقراطية تسعى إلى تقديم حلول مبسطة وسطحية ومضللة، يعمل التليفزيون ووسائل الإعلام على تغذيتها وإنجاحها بشكل ما، لقد باتت تتمتع بحضور قوي في أوروبا بتركيزها المفرط على التمييز بين السكان الأوروبيين الأصليين وبين الوافدين، متناسيةً أن التعاون وتبادل الثقافات وامتزاجها يعزز توسع وإثراء بلد بأكملها، ولأجيال أخرى تالية.
هكذا يرى «توردوروف» أن المبادئ التي قامت عليها الاقتصاديات في أوروبا والغرب، والديمقراطية المزعومة التي تمارسها تلك النظم تقع في نفس أخطاء أعداء الديمقراطية الطبيعيين؛ بمعنى أن الأفكار الغربية والأوروبية تناقض ذاتها، وتحتاج لإعادة تفنيد مبادئها وتقييمها.
منظومة لن تستمر
تحت عنوان (هشاشة الإمبراطورية) يعتبر «تودوروف» أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة هي سياسة نظام الإمبراطورية، وأن ما فعلته في حروب الشرق الأوسط التي تستهدف البترول تحت غطاء فرض الديمقراطية يصب في نزعاتها الإمبريالية التوسعية، وأن النموذج الإمبراطوري الذي تسعى أمريكا لتحقيقه يختلف عن النزعة الاستعمارية لدى كل من فرنسا وبريطانيا في القرن التاسع عشر، كما يختلف عن السياسة التوسعية التي توخَّاها الاتحاد السوفيتي في القرن العشرين، بينما الإمبراطورية الأمريكية لا تشبه هذا ولا ذاك؛ حيث لا تحتل أمريكا البلدان ولا تسعَى لضمها بل تكتفي بالهيمنة عليها تحت شعار: «مَن ليس معي فهو عدوي».
يقول «تودوروف»، مبررًا أسباب هشاشة تلك المنظومة: (تستطيع الولايات المتحدة اليوم الانتصار في أي مواجهة من النوع الكلاسيكي، ذلك ما يبدو من الأمور الواضحة، لكنها إزاءَ التهديد الإرهابي تشبه تقريبًا الملاكم الذي يحاول سحق البعوض من دون نزع قفازَيه..)، وهو يشير في هذا إلى حادث انهيار البرج العالمي سبتمبر 2001م والذي اتخذته أمريكا ذريعة لتحقيق مبتغاها في الشرق الأوسط، وتابَعنا تداعياته منذ ذلك الحين إلى الآن.
يتابع «تودوروف»: (ليس من المؤكد أن الحرب في العراق قد ساهمت حقًا في استئصال الإرهاب، فالعنف يولِّد عنفًا.. سيحس الكثير من المجموعات السكانية العربية والمسلمة أو ببساطة المجموعات السكانية غير الغربية بأن في هذه الحرب إذلالًا لهم بالضرورة، والحال أن الإذلال الواقع أو المتخيَّل أب التعصب..)
إن ما بشَّر به «تودوروف»، بشكل غير مباشر، من أن النظام العالمي الجديد عُرضَة للانهيار بسبب زوال الأسس والمبادئ التي بُني عليها، وأن التوحش الاستعماري، والأطماع الاقتصادية المدمجة في أفكار «النيولبراليزم»، ومقاومة أمريكا لفكرة أن يكون لها شريك في زعامة العالَم، كل هذا أفضى إلى اللامعنَى.. إنه نظام دولي بلا معنَى ولا هدف ولا أسُس، بعد أن اختلطت المفاهيم وضلت المبادئ طريقها.
كورونا.. القطرة التي أفاضت الكأس
لم يعِش «تودوروف» حتى يشهد جائحة كورونا، وكيف أثَّرت على العالَم.. لكنَّ ما حدث في عام واحد بفعل انتشار الوباء القاتل، فاق ما حدث في عشرات السنين الماضية..
لم يشاهد تودوروف مُواطِني إيطاليا وأسبانيا وصربيا يَكفرون بالاتحاد الأوروبي ويحرقون أعلامه على شاشات وسائل التواصل، بعد أن انصرف الاتحاد عن مساعدة الشعوب إلى مساعدة رؤوس الأموال والكيانات الاقتصادية الكبرى، كيف يظل بعد هذا مَن يثق في المنظومة العالمية، أو المبادئ الأوروبية التقدمية، أو الديمقراطية الأمريكية المزعومة.. بل كيف سيصدق هؤلاء المتشدقون بالتقدمية المزعومة والتحضر الزائف أنفسهم؟!
[email protected]