"إنبابة" هكذا كانت تسمى كما ذكرها الجبرتي، ومن المرجح أن اسم "إمبابة" الذي تعرف به الآن قد أطلقه تجار ورعاة الجمال "الأمهريون" القادمون من الحبشة، فإن "إمبابة" بـ"الأمهرية" تعني "نخلة الدوم المصرية".
في الأصل كانت "إنبابة" قرية صغيرة شمال الجيزة تطل على الشاطئ الغربي للنيل في الجهة المقابلة لـ"بولاق"، أو كما كانت تسمى "رملة بولاق مصر"، وكانت تضم أربعة كفور: (كفر كردك وكفر الشوام وكفر تاج الدولة وكفر سيدي إسماعيل الإنبابي)، وعلى الرغم من أنها قرية صغيرة إلا أن أبنيتها كانت أكثر ارتفاعًا من قرى الأرياف.
ظلت قرية "إمبابة" لقرون طويلة المحطة الأخيرة للجمال التي كانت تجلب من السودان وإفريقيا عبر درب الأربعين لتباع في سوقها الشهير "يوم الجمعة" الذي لا يزال موجودًا للآن والمعروف بـ"سوق الجمال".
وبسبب موقع "إمبابة" المتميز على النيل كان الركاب أو البضائع الآتية من الوجه القبلي تنقل بالمراكب الشراعية من البر الشرقي المقابل لـ"إمبابة" لنقلها بالقطار إلى الوجه القبلي والعكس، ثم استبدلت المراكب بالمعدية البخارية، وذلك قبل إنشاء "كوبري إمبابة" القديم 1890م وكان خطًا مفردًا، وتم استبداله بكوبري جديد 1912م، وتم تشغيله 1925م لتوقف العمل بسبب الحرب العالمية الأولى.
وبالمناسبة "كوبري إمبابة" أحد الكباري الحديدية في العالم التي صممت لعبور السكك الحديدية، وأقدم كوبري سكة حديد معدني يفتح بحركة دائرية حول محور الارتكاز لعبور المراكب، وهو أول كوبري في القارة الإفريقية.
كانت "إمبابة" شاهدة على دخول قوات الحملة الفرنسية مصر 1798م، فدارت على أرضها -في 21 يوليو من نفس السنة- المعركة الكبرى والفاصلة بين الفرنسيين والمماليك، ومن هنا جاءت شهرتها التاريخية، فدخل الفرنسيون مصر (القاهرة) قادمين من الإسكندرية، ثم "رشيد"، ومنها إلى "إمبابة" عبر النيل.
انهزم المماليك شر هزيمة، فسقط في النيل من سقط، وغرق الكثيرون ونجا من نجا، ومن أشهرهم "إبراهيم بك"؛ الذي هرب جهة العادلية، أما "مراد بك" فهرب إلى الصعيد، وكانا من زعماء المماليك.
هذه المعركة لم يشهدها "نابليون بونابرت"، لكنه جاء إلى القاهرة بعد هزيمة المماليك، واتخذ من بيت "محمد بك الألفي" بالأزبكية مقرًا وسكنًا له بعد أن تركه "الألفي" وهرب.
اشتهر معظم أهل "إمبابة" بأنهم أصحاب حرف، خاصة في المطابع، فمعظم العاملين في مطابع مصر كانوا من إمبابة، وكان منهم من يعملون في المراكب وصيد السمك وزراعة البساتين، ومنهم الصباغون والحدادون والنجارون والخضراتية والجزارون والإسكافية وتجار الغلال، واشتهرت بصناعة البشاكير والفوط.
وكان بها سوق كبير به العديد من الدكاكين والقهاوي ومصابغ وطواحين، منها طاحونة بخارية، بالإضافة إلى وكالة.
ينتسب فضيلة الإمام "شمس الدين الإنبابي" إلى "إنبابة" التي عاش فيها سنوات طويلة وتعلم في مدارسها، وهو الشيخ الثاني والعشرون والرابع والعشرون للأزهر الشريف؛ حيث تولى المشيخة مرتين، كانت الأولى أثناء الثورة العرابية؛ لكنه استقال إثر حوادث الثورة، وبعدها بخمس سنوات أصدر الخديو توفيق قرارًا بعودته شيخًا للأزهر الشريف، وظل لمدة تسع سنوات واستقال لإصابته بالشلل واعتلال صحته.
وفي "إمبابة" جامع ومقام "سيدي إسماعيل بن يوسف الإنبابي"، ويرجع نسبه -كما ذكر المقريزي- إلى "سعد بن عبادة" سيد قبيلة الخزرج بالمدينة المنورة أيام الهجرة، ويقام له مولد كل سنة.
كانت "إمبابة" -مثلها مثل معظم أحياء القاهرة عند بداية نشأتها- تضم قصورًا للأمراء وبساتين، وبها أنواع نادرة من الأشجار، من أشهرها بستان أنشأه الأمير "سليمان أغا السلحدار" وبنى به قصرًا وسواقي أخذ أحجاره من الوكائل والدور التي هدمها من بولاق عام 1213 هجريًا، واشتهرت "إنبابة" بعصير القصب، فكانت بها آلة بخارية لعصره لم تكن متوافرة في مناطق أخرى، ولوجود محطة للسكة الحديد، فكانت بالقرب منها ورشة لعمل عربات السكة الحديد.
كما اشتهرت "إنبابة" بعمل "الزلابية" المعروفة بـ"لقمة القاضي"، والترمس وطريقة تحليته، والغريب أن كثيرًا من الكتاب الأجانب ذكروا الترمس وطريقة تحليته، ومنهم "هيرودوت وديودور"، فكان الترمس يزرع كثيرًا في مصر، أما عن طريقة تحليته لنزع مرارته، فكان يوضع في مكاتل مصنوعة من خوص النخل ويلقى في البحر (النيل) مربوطًا بحبل لمدة ثلاثة أيام حتى تذهب مرارته، ثم يعلق لنزول المرارة منه تمامًا ثم يملح ويؤكل، وكان الترمس من ضمن المأكولات التي حرم أكلها الحاكم بأمر الله، إلى جانب منع زراعة وأكل الملوخية والبقلة (الجرجير)، ومنع أكل السمك الذي لا قشر له وكبب اللحم.