على بعد نحو 200 متر من شاطئ "خور الرمس" في رأس الخيمة، استمعت ومجموعة من الصحفيين لمحب وهو يحكي عن حبيبته، والحكي عن المحبوبة يضفي على القول لمسة الصدق فتجعل الكلام يصل بسهولة ويسر إلى القلوب.
كان هذا حال عبدالله السويدي صاحب فكرة ثقافية تراثية سياحية اقتصادية تنشيطية في أرض الإمارات.. ألا وهي استزراع اللؤلؤ في مياه الخليج العربي.. إنه مشروع يُعيد به التراث ومجد الأجداد وعملهم الذي فني، وثقافتهم التي كادت أن تندثر، لكنها نمت على يده.. فأصبحت مُجسدة أمامنا كواحدة من الحرف التقليدية التاريخية (صيد اللؤلؤ) التي تفخر بها دول الخليج كلها ليست الإمارات فحسب؛ بل البحرين وسلطنة عمان والكويت.
فكرة عبد الله تحمل من الحب ما يجعلها تنتشر، ومن الوفاء ما يجعلها تفيض، ومن الإتقان ما يجعلها تستمر.. ومن العلم ما يجعلها قابلة للتطبيق، فعبدالله جعل من فكرته مثالا لكل من يحلم بإعادة تراث الماضي.. في كل بلداننا العربية، فبلداننا العربية لديها تراث هائل وزاخر وقوي ومبهر.. يستحق أن نعيده ونقدمه بصورة حديثة جميلة براقة.
الفكرة تشبه في المعنى نفس فكرة القرية الفرعونية عندنا في الجيزة حين تمر بتجربة يوم كامل مع المصريين القدماء.. تُعيد إحياء تاريخ مضى، ولكن تعيشه في الوقت الحالي.. هذا تماما ما يحدث لك في مزرعة اللؤلؤ تمر بمراحل زراعة وتربية واصطياد واستخراج اللؤلؤ من المحارات.. لتستمتع الوفود السياحية وعشاق اللآلئ.
إنها تجربة معاصرة وفريدة متنوعة بين الطبيعة والاستفادة العملية، كل هذا يحدث وأنت في عرض البحر وسط الجزيرة الخشبية التي تشبه عوامة في نيل القاهرة لكن الجزيرة أكبر حوالى 4 أو 5 أضعاف.. مستمتعًا بالهواء وسط الجبال الشاهقة والمياه المحيطة، بالإضافة إلى المشاهدة عبر المناطق المخصصة على المنصة البحرية ضمن برنامج المحاكاة الطبيعية لحياة الغواصيين الإماراتيين.
عند شرح ملخص لحياة الصيادين على المراكب.. وأعدادهم وكيف يتم توزيعهم على جسم المركب وكيفية نومهم.. وكيفية الاحتفاظ بالطعام لكي لا يفسد، وتوزيع جرعات المياه العذبة بين البحارة.. لفت نظري واستوقفني أن حصة كل صياد من المياه لا تتجاوز كوبين من المياه يوميا.. نعم كوبين فقط من المياه يوميا للشرب في عرض البحر.. على مسافة بعيدة من الشاطئ المأهول، في رحلة قد تمتد لعدة أيام أو عدة أسابيع، فلقد ومازالت المياه أندر وأهم الأشياء والحاجات.. في السفر والإبحار.
ورغم أن أجسام الصيادين كانت في حاجة إلى مياه بسبب كثرة الغطس والصعود والهبوط داخل مياه البحر المالحة، إلا أنه كان هذا نصيبهم وكان هذا حظهم من المياه العذبة.
وقد تستغرب إذا علمت أن أعمار أغلب هؤلاء البحارة كانت تتجاوز 90 عامًا.. فجد عبدالله الذي كان مرافقًا لنا ودليلنا طوال الوقت.. لحق به عبدالله وحكي له أغلب هذه الحكايات التي يحكيها لنا الآن.. وقد توفي جده وعمره نحو 101 عام.. وعاش بصحة جيدة طوال حياته.
ولا أخفي إعجابي باستخدام الحداثة والتكنولوجيا في استزراع اللؤلؤ في بطون المحارات، وهي الفكرة التي نشأت وظهرت لأول مرة في اليابان في بداية القرن الـ20، وأسسها كوكيتشي ميكيموتو.. وتتكون اللآلئ بشكل طبيعي عندما يعلق العنصر الخارجي، داخل الرخويات، ما يؤدي إلى إفزاز المحارات لعرق اللؤلؤ، الذي يحيط بالجسم الغريب، ويتحول عرق اللؤلؤ في النهاية إلى لؤلؤة صلبة جميلة.
انتشلنا بأيدينا على الجزيرة الخشبية المحارات من أقفاصها في المياه المالحة، وفتحنا صدفاتها بعدد خاصة، ثم استخرجنا من داخلها اللؤلؤ المزروع.
ربما يأتي يوم نتوصل فيه لكيفية استخدام أجسادنا لكوبين من المياه يوميًا، مثلما عرفنا كيفية زراعة اللؤلؤ؟! بطريقة صناعية بدلا من الانتظار لنحصل على لؤلؤ طبيعي.. خصوصًا وأن أزمة المياه ستطال العالم كله من أقصاه إلى أقصاه.. وإن كان فعلها القدماء.. فربما نفعلها نحن أيضًا..
وإن كانت الإمارات تزرع اللؤلؤ فمصر قادمة بقوة لزراعة المحار في قناة السويس.. نرجو أن ينجز هذا المشروع الضخم قريبًا.. لننتظر ونرى.