أولا ... الثقافة تقهر الكورونا
تؤكد الشواهد الحضارية والمشاهد الحاضرة في المنظومة العمانية، أن الفعل الثقافي يتجلى دائما، أقوى من الفعل السياسي المؤقت، وأقوى من الفعل الاقتصادي الموسمي، وأقوى من الفعل المجتمعي المناسباتي، وإن شئت قل إن الخطاب الثقافي في كليته وفي خصوصيته هو الغطاء الذهبي لكل الخطابات الأخرى.. لماذا؟ لأن الثقافة الأبقى أثرا، والأطول عمرا، والأغزر فكرا، بل هي «ميزة العبقرية الإنسانية» على حد توصيف منظمة اليونسكو، وباعتبارها «السر الكامن وراء كل ما نمارسه، فهي الأبقى في الأذهان حين يطوي النسيان كل شيء.
وإني لأشهد - وشهادتي غير مجروحة وهي التي بدأت مفرادتها قبل أربعين عاما أو يزيد، وتواصلت بلا توقف - أن اللحظة الثقافية العمانية في حاضرها وحضارتها تؤكد المقولة التي أطلقها دائما (أن العصمة في يد الثقافة) عصمة أي مجتمع في ثقافته أولا، وهي في المجتمع العماني حائط صد ضد عوادي الزمن المتقلبة، وسد عال ضد عواصف حداثة العصر العصبية، وتحول بين أن تطغى الثوابت على المتغيرات، بل هي تحقق التعادلية، والمعادل الموضوعي للحياة.
من وهج اللحظة العمانية الراهنة، أكتب، وأسلك ومضات من«علامة تعجب» تجبر من يطرحها على أن تكون «علامة إعجاب»، ففي أجواء «كورونا المزعجة» والتي يبدو أنها تحولت إلى «مسرحية عالمية مملة» سطع معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته الـ 26، وهي الدورات التي شهدتها وعايشتها كلها بلا استثناء، وأنا على ذلكم من الشاهدين.
وتتهيأ مسقط أيضا لاحتواء حدث عظيم، بعد حوالي الشهرين، ألا وهو استضافة سلطنة عمان اجتماعات الجمعية العمومية «الكونجرس» الـ31 للاتحاد الدولي للصحفيين، بحضور 300 مشارك من 178 من ممثلي الاتحادات والجمعيات والنقابات والهيئات الصحفية بما يمثل 148 دولة حول العالم، وهو جهد جبار وقف عليه بجدارة الدكتور محمد بن مبارك العريمي رئيس مجلس إدارة جمعية الصحفيين العمانية،
هذا إلى جانب التدفق الابداعي صياغة وصناعة من جمعية الكتاب والأدباء، وجمعيات المرأة العمانية، والنادي الثقافي، وغير ذلك من القنوات والمنتديات الفكرية والثقافية والمجتمعية الرسمية منها والخاصة، وكلها تتفاعل لتتكامل.
*
ويحسن بي أن أتوقف مليًا في ضياء هذين الحدثين، اللذين يتداخلان فيها الثقافة بالسياسة بالإعلام، لاسيما الصحافة التي هي سيدة وسائل الإعلام كافة، بل الصحافة تظل العنوان الذي يفكر لكل ما هو إعلامي، مهما كانت فتنة الصورة الإلكترونية وغواية الميديا في كليتها.
إذ تسلك مسقط طريقها في هذه المنظومة الثقافية، وقد صاغت خطابها الثقافي صياغة تتداخل فيها شواهد الماضي مع مشاهد الحاضر، منذ أطلت عمان على العالم، في صياغتها الحديثة، اتخذت من الثقافة سبيلا، باعتبار ان العقل الإنساني يطل من الثقافة، وأن بناء الإنسان هو بناء الثقافة.
*
قبل شهر قمت بأول زيارة إلى مسقط بعد ما يسمى بـ«جائحة كورونا (!!)، ويومها لم يكن القرار العماني واضحا فيما يتعلق باستئناف معرض مسقط الدولي للكتاب، بل كان المرجح أن يتم تأجيله، لكن كانت المفاجأة المبهجة هو إقامته في موعده السنوي المعتاد قبل 26 عامًا، وحين تحركت بين أجنحة المعرض التي بلغت (975 جناحًا) تعرض 361 ألف عنوان، قدمتها 715 دار نشر منها 33 دار نشر مختصة بالكتاب الأجنبي، حتى لقد بلغ عدد الدول المشاركة 27 دولة ، زد على ذلك 114 فعالية ثقافية وأدبية متنوعة بين محاضرات وأمسيات ثقافية وادبية، وحفلات التوقيع من الأدباء والكتاب الذين ظلوا يوقعون على إصدارتهم طوال أيام المعرض العشرة، وقد انفرد الطفل بـ 80 فعالية متنوعة وقاعة متكاملة لفعاليات خاصة بمناشط الطفل والأسرة تشتمل على مسرح للفعاليات والركن العلمي والثقافي وركن القراءة وإقامة حلقات العمل.
كيف تم إنجاز ذلك بهده السرعة الفائقة؟ علم ذلك عند الله ثم عند د.عبد الله الحراصي وزير الإعلام..
*
في مسقط.. يحتفلون بالكتاب، أيما احتفاء.. ويحتفون بالكتـَّاب والمؤلفين على اختلاف مشاربهم وتعددية أطيافهم، أيما احتفاء.، ذلكم تقليد أصيل وعريق في المكتبة العمانية، ولا يزال ممدوا ومتواصلا مع اللحظة العمانية الراهنة، بشكل أو بآخر.. منذ انطلق العمانيون في الفكر والبحث، ولم تكن هناك حواجز جغرافية أو مذهبية بين العلماء العمانيين، وبين سائر علماء ديار الإسلام، أو بينهم وبين هؤلاء الذين ينتمون إلى بلاد غير إسلامية، وقام العمانيون في البصرة في القرون الأولى للإسلام بدور بارز وأساسي بين علماء الإسلام من حيث الإنتاج الفكري والاتصال بأنحاء العالم الإسلامي، وقد شبهوا العلم «بطائر باض بالمدينة، وفرخ بالبصرة، وطار إلى عمان.
يؤكد المؤرخون أن عمان ساهمت في بناء صرح الحضارة الإسلامية، طوال عصورها التاريخية، في ميادين الدين والعلم والثقافة والسياسة والاقتصاد وتشير كتب المؤرخين والأدباء وكتب الطبقات والتراجم، إلى أن كثيرًا من علماء عمان وخطبائها وأدبائها الذين ألفوا وكتبوا الكثير من الكتب التي لايزال كثير منها باقيا حتى الآن، وقد شمل هذا التأليف ميادين كثيرة، مثل الفقه والحديث وميدان اللغة والأدب، وميدان التاريخ والسير، وفي هذه المجالات ظهرت مدارس متميزة قامت بدور كبير في إثراء الفكر والعلم والثقافة، في عمان وفي غير عمان من بلدان العالم الإسلامي.
*
تزامن ومواكبة بين المؤلفين والكتب وصناعها ومنتجيها.. ويلفت الانتباه تلك الحميمية بين المبدع والمتلقي عبر تقليد توقيع المؤلفين على كتبهم وهم يهدونها إلى جمهور القراء مثل شاهدت د.أنور الرواس وكتابه(جدلية المواطن والسلطة) وقد تكوكب حوله ثلة من الزائرين المتابعين للفكر ورجاله، هذا إلى جانب الكتلة السردية من الفعاليات من قبيل محاضرات التعددية الثقافية في عمان والانفتاح على الآخر.. والمخطوطات العمانية وكيفية المحافظة عليها.. الفرص الاستثمارية في الشرقية.. ظفار ومحمية رأس الشجر.. يوم المعلم.. الملكية الفكرية في التصاميم الفنية والمعمارية.. (العزف فردي ونبذة عن الموسيقى الشرقية.. دور المعلم وأهميته في المجتمع.. ظفار من الجبال الموسمية إلى السواحل الرملية.. علمني كيف أصنع حبرًا.. أثر الجوائز الأدبية على الأدب والثقافة والكتابة.. ومقاربات نقدية وسردية وجلسات نقدية مثل «ترميم المسكوت عنه في رواية «فتنة العروش» للكاتبة زوينة الكلبانية للباحثة د.سعيدة خاطر الفارسية، وكذلك ثقافة علوم البحار لدى العمانيين..فعاليات الأسرة والطفل حكايات من عمان، الأمن والسلامة في المسارات الجبلية.. الفن والوعي المجتمعي.. قضايا الفن المسرحي الحديث.. الصراعات العقلية في حضرة الافكار التشكيلية المعاصرة.. وجدليات ثرية، وحواريات كثيرة، بدأت بإشارات وإضاءات برقت أمام وزير الثقافة والرياضة والشباب ذي يزن بن هيثم بن طارق آل سعيد، من تشكيلة من الناشرين العمانيين والعرب حول إسهاماتهم ومشاركتهم في هذه الدورة، وذلك خلال جولة بين اجنحة المعرض.
ونلتقي في المقال القادم في ضياء الحدث الصحفي العالمي المنتظر في مسقط..